علم التفاوض

12 مارس 2017
+ الخط -
التفاوض، وخاصة في حالة الحروب والأزمات الإنسانية الكبرى، ليس عملية اعتباطية، وإنما علم رُصدت له الكثير من الأعمال البحثيّة والأدبيات النظريّة البحتة والمتمثّلة في نظريات المباريات التفاوضية ذات التوجه الحسابي، وتلك التي تتناول الأبعاد السلوكية والسيكولوجية لشخصية المفاوض من منظور العلوم الاجتماعية المختلفة، وكذلك تلك الأدبيات العالمية المبسّطة والعمليّة كما في منشورات جامعة هارفرد التي لا تهدف فقط إلى تنمية مهارات التفاوض في الحالات السياسية والاقتصادية والإدارية والاجتماعية المتخصّصة، وإنّما أيضاً تنمية مهارات التفاوض على مستوى طلاب الجامعات والمدارس الثانوية وذلك إيماناً من القائمين عليها بأن هذا الأمر يُعتبر من دعائم العمل بروح الفريق الواحد والذي يمثّل في الواقع جوهر أيّ الأعمال التنمويّة لأي بلد.  

وكما أشار إليه الدكتور، حسن محمد وجيه، في كتابه "مقدمة في علم التفاوض الاجتماعي والسياسي" الصادر عام 1994 عن سلسلة عالم المعرفة، التفاوض هو علم وفن، هو علم حَيَوي لعملية التواصل بين الأفراد وبين المنظمات داخل المجتمع الواحد وبين المجتمعات، له أسسه وأدواته ومفاهيمه التي تخضع لقوانين بحثيّة وعلمية ودراسة. وهو علم حديث تكاملي أي يستمد أسسه ومفاهيمه تلك من عدّة علوم اجتماعيّة كعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم اللغويات والإدارة والعلوم السياسية والعلاقات الدولية والاقتصاد والتاريخ. ولكنه أيضاً فنّ لأنه يعتمد على مهارات وكفاءات شخصيّة خاصة كالقدرة على تصوّر الهدف النهائي والانتقال إليه برشاقة ومرونة من مرحلة إلى مرحلة أُخرى بالاعتماد على فهم الواقع وتعقيداته وطبيعته، وهو فن أيضاً، لأنه يعتمد بشكل كبير على كفاءات المناورة والحوار وعملية التواصل وتقبّل الآخر، جنباً إلى جنباً، مع قوّة الخيال والتصوّر بعيداً عن التخبّط والعشوائيّة والارتجال.

ويهدف علم التفاوض إلى الكشف عن أفضل الوسائل لتكوين أرضيات مشتركة والتفاهم الفعّال بين الأفراد بالرغم من اختلافهم الثقافي أو السياسي أو العقائدي وذلك من أجل تجنب المشاكل والصراعات أو لوضع حدّ لها والخروج منها. 

وقد ينجح المتفاوضون في الوصول إلى تلك الأرضية المشتركة وإيجاد الحلّ وتجنب أو إنهاء الصراع، وذلك خصوصاً إذا كان مبدأ التفاوض عند جميع الأطراف هو ما يُعرف بتعبير "إكسب أكسب" gagnant-gagnant الذي وضعه عالم النفس الأميركي، توما غوردون، (Thomas Gordon, 1918 – 2002). وهذا المبدأ يتطلّب أن يعترف كل طرف من المتفاوضين بحقوق الطرف الآخر، وأخذ مصالحه بعين الاعتبار، والاعتراف أيضاً بالمصالح المشتركة بينهما وهو يضمن حلّاً يُرضي جميع الأطراف لأن لديهم شعوراً بأنهم جميعاً رابحون ولا يوجد خاسر. بالمختصر المفيد، هو الطريقة الفضلى للوصول إلى صيغة يكسب منها الجميع بصورة واقعيّة.

وقد يفشل المتفاوضون في الوصول إلى حلّ، خصوصاً إذا كان مبدأ التفاوض عند أحد الطرفين هو "المبدأ الصفري" أو "المباراة الصفريّة" على حدّ تعبير عالم الرياضيات والاقتصاد الألماني مؤسس "نظريّة المباريات في العلاقات الدوليّة" أوسكار مورجنستيرن (Oskar Morgenstern, 1902 – 1977). والمبدأ الصفري في التفاوض يعني أن يكون موقف أحد الأطراف هو "يجب أن أربح كل شيء ويجب أن يخسر الطرف الآخر كل شيء" وغالباً، وليس دائماً، ما يكون هذا الموقف ضمنيا. والحل الذي يتحقق من خلال المبدأ الصفري، أو مبدأ "إما قاتل أو مقتول" باللغة العاميّة، يتطلب أن يشعر من يتبنّاه بالقوّة والقدرة على تدمير الآخر وتشويهه أو إلغاء وجوده بكل بساطة، وفي هذه الحالة تكون لغة الحوار المفضلة هي لغة العنف والرصاص. 

ولكن فشل المتفاوضين في الوصول إلى حل وتبنّي المبدأ الصفري لا يعود فقط إلى الشعور بالقوة وسوء النيّة والرغبة في تدمير الطرف الآخر والابتعاد عن الأخلاق والإنسانية والميول الإجراميّة، وإنما أيضاً، على سبيل المثال لا الحصر، إلى افتقار كفاءات الحوار اللغوية بأبعادها المختلفة: كفاءة لغوية اجتماعية وكفاءة لغوية نفسيّة وكفاءة لغوية دبلوماسية وكفاءة لغوية عبر ثقافية.

وتعني الكفاءة اللغوية الاجتماعيّة اتقان قواعد اللغة المستخدمة في مستوياتها النحويّة والدلاليّة الظاهرة، وهذا يتطلب القدرة على فهم معاني المفردات واستخدامها في اختلاف السياقات وفهم المعنى الاصطلاحي ودلالاته لكل منها. أما الكفاءة اللغوية النفسية فهي القدرة على فهم طبيعة الموقف ومعرفة الخلفيّة والسمات النفسيّة والشخصيّة للمفاوض الآخر واتجاهاته بشكل عام من خلال لغته المستخدمة وتوظيف استراتيجيات تفاوضية تتناسب مع هذه السمات، وهذا يتطلب معرفة بتقنيات "تحليل المضمون" وهو تحليل كمّي وكيفي للغة الحوار المستخدمة من أجل فهم دلالتها الظاهريّة والباطنيّة. وفي ما يخص الكفاءة اللغويّة الدبلوماسيّة فتعني القدرة على استخدام لغة دبلوماسية، وامتلاك مهارات الإقناع والإنصات والصمت وتوصيل رسائل مبطّنة تحتمل إنكارها مستقبلياً إن احتاج الأمر، وتجنب أفخاخ الخصم، ومعرفة دلالات المصطلحات القانونية والدبلوماسية المتعلقة بالموقف التفاوضي والتمييز بين "التساوم" و "التفاوض". وأخيراً، بالنسبة للكفاءة اللغويّة عبر ثقافية فهي تشير إلى استطاعة المفاوض على تحليل الخلفيّة الثقافيّة والاجتماعيّة للطرف الآخر وفهم معاييره وقيمه وتصوّراته الاجتماعية المرتبطة بشكل وثيق بهذه الخلفية والتي تُعتبر في معظم الأحيان حواجز مهمة أمام الفهم والإدراك المشترك. وهذه الكفاءة ضروريّة جدّاً في حالة التفاوض بين طرفين من ثقافتين مختلفتين بشكل كامل أو جزئي. 

للتفاوض أنواع متعدّدة وتصنيفات مختلفة واستراتيجيات تختلف من حالة لأخرى سنأتي على ذكرها جميعاً بالتفصيل في مقالات لاحقة.

دلالات
EB01B814-698C-4CCC-9ACD-FF0F50FDCC1F
EB01B814-698C-4CCC-9ACD-FF0F50FDCC1F
عزام أمين

كاتب وباحث سوري، دكتوراة في علم النفس الاجتماعي، مدرس في معهد الدوحة للدراسات العليا

عزام أمين