يا عيني ع الصدف يا عيني!

28 يوليو 2023
+ الخط -

كانت زيارة عادية جدًا في بعض أيام يناير/كانون الثاني 2007، في الدور الأربعين بفندق غراند حياة، حيث مطعم ريفولفينغ الذي يدور بك لترى القاهرة الساحرة ونيلها الساحر. جاء أحدهم ليجلس مع صديق يعمل بهذا المكان، لا جديد في ذلك على الإطلاق. أنت في مكان عملك تستقبل صديقًا، أو تزور بعض معارفك في مقرّ عمله، فين "الساسبينس" في كده؟!

لكن ما حدث في اللحظات التالية غيّر حياة هذا الزائر، إذ دخل المطعم رجلان من رجال الأعمال، رجلان من العيار الثقيل، ووقعت ترتيبات أرجأت لدقائق جلسة الصديقين، وفتحت بابًا كان له ما بعده. خلال لحظات انتظار عودة صديقه، تخيّل الضيف وقوع كارثة ما ووفاة كلّ الموجودين سواه، وأنّه شاهد العيان الوحيد لهذه الواقعة الغريبة، فأخرج ورقة وقلمًا وسجّل هذا الخاطر، ثم جاء صديقه، فتناولا القهوة وتحدّثا في أمور روتينية، وعاد كلّ منهما إلى مشاغله.

المخ يبني على آخر تجربة، وهذه الزيارة الخاطفة لم تبتعد عن مخيّلة الشاب، جلس في بيته ساهمًا حتى جاءت زوجته التي لم تعهده بهذا الصمت والسرحان، سألته عن بواعث تغيّره المفاجئ، أخرج الورقة من جيبه، وضعها أمامها وانتظر حتى قرأت الأسطر، ثم شهقت قائلة "مدهش! أنت مشروع كاتب عظيم يا أحمد". لعلّها مجاملة من زوجة لشريك حياتها، لا بأس، غير أنّ الهاجس يلحّ ويجب التعامل معه بصورة أو بأخرى.

ليقطع الشك باليقين، أضاف بعض الجمل إلى الأسطر الأولى فتولّدت بين يديه صفحات، أراد أن يستفيد من خبرة بعض الزملاء، أهل الاختصاص في الكتابة بوصلة جيدة، عرض الورقات على مخرج بمعهد السينما، لعلّها استشارة تشي بميلاد كاتب جديد، تقلّب أيامًا على جمر الانتظار، ثم جاءه الرد بعد أسبوعين "أحمد! أنت لست كاتبًا، ولا تملك موهبة، لا تضيّع وقتك في السعي وراء حلم لن تناله، التزم بدراستك ومهنتك الأصلية، وقد أجد لك فرصة ما".

سألته زوجته عن بواعث تغيّره المفاجئ، أخرج الورقة من جيبه، وضعها أمامها وانتظر حتى قرأت الأسطر، ثم شهقت قائلة "مدهش! أنت مشروع كاتب عظيم يا أحمد"

نزل الخبر على السامع كالصّاعقة، لو أدار شريطًا سينمائيًا في تلك الثواني بطيئة الخطو، لتمثل له بشّار بن برد العقيلي، إذ تلاحى رجل وقومه طويلًا، هو يزعم في دخيلة نفسه أنه شاعر، يريد أن تكون مهنته في البطاقة شاعرًا، وهم يريدونه أن يلتفت إلى مصالحه وأكل عيشه وأن يبني مستقبله وألا يتأخر عن أقرانه. ولما استيأسوا منه، قالوا له لنحتكم إلى شاعر فحل يفصل بيننا وبينك، نستشيره في أمرك على أن تذعن لقراره، ونعدك إن شهد لك بالشاعرية أن ندعمك ونكون أول من يصفّق لك، وسنعقد لك حفلات في الساقية ومهرجانات والذي منه، آمين؟ آمين!

ذهبوا إلى أبي معاذ، فلّما قصّ عليه القصص، قال "لا تخف نجوت وإني لأظنّك من أهل بيت النبوّة"، فقيل: "وكيف ذلك يا أبا معاذ؟" قال: "لأنّ الله تعالى قال فيهم "وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ"؛ فأسقط في يد الحالم واستيقظ من غفوته، واستبعد الشعر من صفحة هواياته واهتماماته إلى يوم الدين؛ فماذا فعل أحمد بعد نصيحة زميله المخرج؟!

طوى أحمد النصيحة وكأنها لم تكن، وفي غضون أشهر أبصر أول إنتاجه الأدبي النور، كانت رواية بعنوان "ڤيرتيجو"، أنت الآن تعرفه باسم أحمد مراد، صاحب سبع روايات وخمسة أفلام في غضون 15 عامًا (2007-2022). بعد "ڤيرتيجو" بثلاث سنوات أصدر "تراب الماس"، وفي 2012 أصدر "الفيل الأزرق"، وبعد عامين أصدر روايته "1919"، وبعد عامين آخرين أصدر رواية "أرض الإله"، وفي 2017 أصدر "موسم صيد الغزلان"، وبعد ثلاث سنوات جاءت روايته السابعة "لوكاندة بير الوطاويط".

يتحسّس أناس من الكليشيهات، غير أنّها، ولسبب ما موجودة وفعّالة في عالمنا، فإن تمثّلتَ موقف شيرين راشد حين عاد زوجها محطّم القلب، أدمى إصبع الندم، وحكى لها رأي صديقه المخرج الذي عصف بحلمه الوليد ونسف قصته في مهدها، لربما صدقّت مبدأ حيوية هذه الكليشيه "وراء كل عظيم امرأة"، وأرجوك رجاءً حارًا ألا تتهمني بالمبالغة، فقط أبلعني ريقي وسأثبت لك جدوى ذلك.

يريد أن تكون مهنته في البطاقة شاعرًا، وهم يريدونه أن يلتفت إلى مصالحه وأكل عيشه وأن يبني مستقبله وألا يتأخر عن أقرانه

يجلس الزوج على الأرض، يضع القصة بتمامها بين يدي زوجته، رأي زميله الذي لم يختلف عن حكم بشّار بن برد، قالت دون أن يطرف لها جفن "سيبك من رأيه، واكتب رواية، هتخسر إيه؟ الناس مش هيشاوروا عليك في الشارع ويقولوا اللي مبيعرفش يكتب أهه، أنا واثقة فيك وفي قدرتك على الكتابة". صباح اليوم التالي، بدأ أحمد مراد في كتابه عمله الأول، بعد ستة أشهر أنجزه، وسلّم مسوّدته الأولى لدار ميريت للنشر، وفي غضون أسبوعين تسلم موافقة بنشر العمل، وتوالت الأعمال والنّجاحات تترى.

قدّمت شيرين رشدي لزوجها شحنة معنوية ودعمًا نفسيًا سريعًا، ربما لو وجد الهاوي العباسي دعمًا كهذا من أمه أو أخته أو زوجته أو دائرة القريبة لقاوم مرارة الحكم البشّاري القاسي، وحاول أن يطوّر من أدواته ويجوّد من قدراته ويجري في حلبة الشعراء، ولو بعد حين، لا سيّما أنّ "أول الرقص حنجلة"، وليس بالضرورة أن تكون الدفقة الشعورية الأولى على الطريقة الشكسبيرية.

لعل المتشاعر العباسي كان يحمل بذرة موهبة، أخمدتها قسوة "المرعث" وتشدّده في الحكم، بل إنّ التلميذ قد الذ يتفوّق على أستاذه، فهذا سَلْم الخاسر راوية شعر بشار بن برد نفسه، يقول في بعض الأيام بيتًا غاص قلب المرعث في قدميه حين سمعه!

قال سلم "من راقب النّاس مات غمًا/ وفاز باللذّة الجسور"، فسمع بشار البيت وتلبّسته حالة من الاكتئاب والسخط والضغط النفسي لم تُعهد عليه قبلًا، وسُمع يقول "مات والله بيتي"، إذ إنّ له بيتًا يدور في المعنى ذاته يقول "من راقب النّاسَ لم يظفر بحاجته/ وفاز بالطيباتِ الفاتكُ اللّهج"، وبين البيتيْن لفظتان في التأليف، وفق ما ذكره ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر. بيت التلميذ ذاع صيته أكثر مما وقع لأستاذه، ورأي الخبير ليس حقيقة مطلقة، إنما هو ظنّ يصدق تارة ويخيب أخرى، بلغة أهل المنطق، كلامه خبر يحتمل الصدق والكذب لذاته.

دلالات