وكأنَّ شيئاً لم يكن... فكيف النّجاة؟
سألتُ صديقًا لي، عامًا بعد الرابع من آب، كيف تصف حالنا؟ "وكأنَّ شيئًا لم يَكُن!"، قال لي بنوع من اليأس، فاستفاق فيّ شعور ثابت على مدار هذا العام، أتناساه في حانات بيروت التي تُحاول أن تعود إلى الحياة، مُوقّتًا: نعيش تعبًا جماعيًا هُنا. اليوم والأمس والغد، لا نرى إلا التعب. حياتُنا عبارة عن محاولات يومية جماعية وفردية مستمرة للنجاة، أُكرّر كلّما أمكن لأتذكّر أنّنا نحاول أن نعيش. نعيش حرفيًّا كل يوم على أنّه الأخير، على أنّ الانفجار سيحدث من جديد، وعلى أنّنا لا نزال في لحظات الانفجار.
مشاهد من ذاكرة الماضي الحاضر
كيف النّجاة؟
الساعة السادسة وسبع دقائق بتوقيت بيروت. أعمل جالسةً في منطقة الحمرا. تبتلع الأرض نفسها تحت قدميّ وتنفجرُ بيروت. يتحطَّم كل من فيها وما فيها. أعتقدُ لوهلة، كما الجميع، أنَّ قصفًا طاول المبنى الذي نقطنه، أو الذي بقربه. أركض من غرفة إلى غرفة أبحثُ عن زاوية أحتمي فيها. تركض أختي فتمسكُ بيدي، ثانيةً واحدة مما يُشبه الشّعور بالأمان في ظل لحظات الرُّعب التي دبّت في المدينة. أنظر من على الشرفة: السّماء سوداء. الأرض سوداء. هل من ضربةٍ أخرى؟ أتخبّط في ذعري، أنجوْنا حقًّا؟
تتّضح المعالم: مجزرة في بيروت. لكنّ عصابة السلطة عرفت قبلنا: زرعوا في قلب العاصمة قنبلةً بحجم الكون. كانوا على علم بكل ما سيتسبّبون به من قتل وإجرام لا يُغتفر. لن يُغتفر. ثم في خضمّ البحث عن أشلاء الضحايا، لا يتحرّكون. عن أي فُرص يتحدّثون، وكيف يجرُؤون؟ يقطفون الفُرص من على جثثنا، على ركام ما تبقّى من مدينتنا وأرواحنا المُحطَّمة، من على قصورهم وعروشهم ومخابئهم المُحكمة. عُقولهم مُبرمجة حول ما يُشكّل فُرصًا بالنّسبة لهم. عُقولنا منهمكة في محاولة النجاة.
يُحاصرنا دويّ الانفجار اليوم أكثر، وتعلو أصوات وأحلام من نجا ومن لم ينجُ. الضحايا لم يختاروا الموت، دولتنا سمحت لنفسها أن تختاره لهم ولنا
وكأنَّ شيئًا لم يكُن؟
لا ننسى وعود الدولة بنتائج تحقيقات عاجلة، منذ عام، كما لا ننسى أبرز إنجازاتها في عرقلة سعي أهالي الضحايا إلى الحقيقة والعدالة، طوال هذا العام. فقد ارتأت فصل قاضي التحقيق الأول فادي صوان بعد أن استدعى شخصيات سياسية للاستجواب، وتستمر حتى الآن برفض طلبات القاضي طارق البيطار برفع الحصانة عن النواب واستجواب كبار أعضاء قوى الأمن المعنيين. فمتى تُرفَع الحصانات؟ وهل لنا أن نتمسّك بأمل ولو بسيط أنَّ إحقاق الحق في بلادنا ممكن، ولو لمرّة في المستقبل القريب، على الأقل في جريمة هائلة كهذه!
ومن لا يعرف أنَّ بيروت باتت ساحةً للمعارك اليومية على محطات الوقود، في الصيدليات والمستشفيات، في محال السوبرماركت، في المصارف، في الإعلام، أمام الجامعات التي ترفع أقساطها، وفي كل ما يُمكن أن يكون محطة حياتية يومية. البلاد تُراوح مكانها في "مُبادرات الحلحلة" منذ عام، من دون حكومة. والشعب همّه أن يُغذّي أولاده إن استطاع، فكيف يُغذّي الأمل، بأي مُقوّمات وبأي سعر صرف؟
يُحاصرنا دويّ الانفجار اليوم أكثر، وتعلو أصوات وأحلام من نجا ومن لم ينجُ. الضحايا لم يختاروا الموت، دولتنا سمحت لنفسها أن تختاره لهم ولنا. ما معنى النجاة؟ نسأل أنفسنا بينما نُلملم شتات ذاتنا. إن كانت النجاة ما تبقّى فينا من أنفاس، فنحن بالكاد نلفظ أنفاسنا. إن كانت النجاة أجسادًا لم تعد تقوى على الحراك، فأجسادنا منهكة حتى الموت. لربُما النّجاة صراخنا وغضبنا في الساحات، أمام وسائلهم القاتلة التي لا تزال تحاصرنا حتى في تشييع ضحايانا. أهلٌ وأصدقاء وشعب مقتول، يقفون جميعًا في رثاء الضحايا، فتُقابلهم السّلطة بالقتل مُجدَّدًا. لم تعد تلك الوسائل تُرعبنا أو تردعنا. سقط خوفنا أمام رداءة شعارات النفوذ السلطوي البالية وقذارة المصالح السياسية. سئمنا منكم ومن كل أجنداتكم السّياسيّة المقيتة. لا بل لعلّ النّجاة في القاعدات التضامنيّة الشعبية، والانتخابات النقابيّة التي شهدت أول الغيث أخيرًا مع هزيمة الأحزاب في نقابة المُهندسين.
نعرف اليوم أنّ ما من أحد نجا. مَن نجا من الانفجار، لم ينجُ من أثره الأبدي. ولم ينجُ أحدٌ من قذارة السّلطة. ولكن سقط خوفنا من الموت. فقد جرّبناه، لا بل نعيشه أحياء. نعرفُ أنّهم أصنام لا تشعر ولا يرف لها جفن مهما كان حجم الكارثة. ونسأل أنفسنا أيضًا، ما معنى النجاة بالنسبة لهم؟ أن تستمر حياتهم كما لو أنّهم لا يعيشون معنا على الأرض نفسها. أن تُحفظ وتكبر ثرواتهم وبطونهم. العارُ أنتم. ونحن الأمل الذي نُحاول أن نُنجّيه فينا، إلى أن نتخلّص منكم كُلَّكم. أصبحنا نعيشُ فقط لنواجهكم. نعيشُ لنُحاسبكم، وننتزع العدالة من عيونكم. عندها فقط سننجو.
إلى يوم الحساب، يُحاصرنا مشهد بيروت: مهدُنا المقتول. لم يُفكّ "الحصار" بعد. لم يُفكّ الحصار على كل أحلامنا وكرامتنا الإنسانية، وعلى ما تبقّى فينا من أمل. نرقُدُ فوق بقايا المدينة نبحث بين الرُّكام عن بقايا الأمل، سبيلنا الوحيد للنجاة. نتمسّك بالمكانس لنُنظّف أرضنا منكم، نتمسّك ببعضنا البعض لنقوى على النّهوض ببيروت من جديد. نتمسّك بثأرنا من الجريمة السوداء، فهو قادمٌ ولو بعد حين. لعلّ الارتطام يتبع الانهيار فيتبعهما الإنقاذ، كما يُهيّئونا، ولكن، أتدرون أنَّنا ما عُدنا نكترث، وأنّ موعدنا في الرابع من آب، وفي الانتخابات النيابية القادمة، وفي كل يوم سانح، لإنقاذ أنفسنا منكم؟