وحدات المستعربين الإسرائيلية.. ما هي؟
من بين دهاليز مستشفى ابن سينا في مدينة جنين شماليّ الضفة الغربية، انتشرَ مقطعٌ مصوّرٌ لعمليةِ اقتحام واغتيال فجر 30 يناير/ كانون الثاني 2024. وتبيّن فيما بعد أنّ عملية الاغتيال التي أثارت غضب روّاد مواقع التواصل الاجتماعي، قد أودت بحياة كل من الشهيد باسل الغزاوي، شقيقه محمد الغزاوي، ومحمد جلامنة. لم يخلُ المشهد الدموي من الوحشية وانعدام الإنسانية، لأنّ حوالى 12 شخصًا ينتمون إلى وحدة مسلحة خاصة، اقتحموا المستشفى متنكرين بزيٍّ مدني، منتحلين صفة أطباء وممرضين، لينفذوا عملية الاغتيال.
وعلى فظاعةِ المشهد الذي أحدثَ صخبًا على مواقع التواصل الاجتماعي، فإنّ ذاكرة الشعب الفلسطيني تحمل ذكرياتٍ مريرة عن عمليات الاغتيال التي نفذتها وحدات المستعربين. واستنادًا إلى معلوماتِ المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار"، فإنّ هذه الوحدات العسكرية مكوّنة من عناصر "أمن" إسرائيلية متعدّدة الوظائف، مهمتها الاندساس وسط المجتمع الفلسطيني بهدف اختراق فصائل المقاومة النشطة وإحباط العمليات الاستشهادية. لا يزال العدد الرسمي لهذه الوحدات مجهولًا، إلا أنّ هناك أربع وحدات تنشط حاليًا؛ وهي وحدة "دوفدفان" المسؤولة عن عمليات الاعتقال والاغتيالات، وحدة "ي. م. س" الأكثر نشاطًا في الضفة المحتلة، وحدة "متسادا" التابعة لسجون الاحتلال، ووحدة "غدعونيم" التابعة للشرطة.
في ثلاثينيات القرن الماضي، وقبل نكبة 1948، ظهرت فكرة وحدات المستعربين، عندما قرّرت عصابة "الهاغانا" الإرهابية أن توظّف عددًا من اليهود ذوي الأصول العربيّة جواسيسَ مندسين للقيام بمهام استخباراتية. وبعد قيام دولة الاحتلال الصهيوني على أنقاضِ القرى والمدن الفلسطينية التي تعرّض معظم سكانها للإبادة أو التهجير القسري، ضُمَّت وحدات المستعربين إلى جيش الاحتلال، وإلى الوحدات الاستخباراتية الإسرائيلية. وخلال الانتفاضتين، الأولى (1987 - 1993) والثانية (2000 - 2005)، أدّت هذه الوحدات أدوارًا متعدّدة في التصدّي لمختلف أشكال المقاومة الشعبية. وشهدت الانتفاضة الأولى حوالى 45 عملية اغتيال، فيما ارتفع عدد الاغتيالات خلال الانتفاضة الثانية إلى ما يقارب 74 عملية. ففي 2 إبريل/ نيسان 1988، وأمام دكان جزار يعود لعائلة الكردي في غزّة، نفذ عدد من الجنود الإسرائيليين المتنكرين عملية اعتقال سرعان ما تحولت إلى مشهدٍ دموي، بعد أن قذف صاحب الدكان ساطورًا لتقطيعِ اللحم دفاعًا عن نفسه في وجه العناصر المسلحة التي هاجمته.
ووفقاً للتحقيقات الميدانية وروايات شهود العيان، فإنّ الوحدات السريّة تصل عادة إلى المناطق السكنية الفلسطينية في سيارة تحمل لوحات أرقام عربية، ويتنكّر عناصرها بأزياء مدنية أو بلباس عربي، ويرافقهم في بعض الأحيان متعاونون محليون أو ضباط، وقد يحملون صوراً للمساعدة في التعرّف إلى هُويّة الشخص أو الأشخاص المستهدفين. كذلك يطلقون النار من مسافةٍ قريبة، مصوّبين فوق الخصر، وعادة إلى الرأس، ومن دون إطلاق طلقةٍ تحذيرية. ويتبنون أساليب وحشية وغير قانونية، لكونهم يتمتعون بحصانةٍ قانونية، بل وتكافئهم حكومة الاحتلال الفاشية على جرائمهم وتمنحهم امتيازات عسكرية واجتماعية عديدة.
وحدات إسرائيلية خاصة، مهمتها الاندساس وسط المجتمع الفلسطيني بهدف اختراق فصائل المقاومة النشطة وإحباط العمليات الاستشهادية
أمّا في السياق الحالي، فتستهدف وحدات المستعربين فصائل المقاومة في الضفة الغربية وتشن حربًا نفسية واستراتيجية على حركاتِ المقاومة التي ولدت من رحم المعاناة ومخيّمات اللاجئين. ويحاول المندسون عرقلة عمليات المقاومة واعتقال قادة هذه الفصائل المسلحة، ما يؤدّي إلى نشوب اشتباكات بين شباب المقاومة وعناصر جيش الاحتلال.
تُعَدّ هوية "المزرَحيم"، أو اليهود المزراحيين، السلاح الأكثر نجاعة لدى هذه الوحدات السريّة، خصوصاً أنّ معظمهم على درايةٍ بأسسِ اللغة العربية ولهم القدرة على الاندماج في المجتمع الفلسطيني بسهولة. فهم ينتحلون صفات أشخاص مدنيين وتساعدهم ملامحهم الشرقية على التحايل والخديعة بهدف التجسّس على الفلسطينيين، كذلك تمكنهم معرفتهم بالثقافة العربية واللهجات المحلية المختلفة من جمع المعلومات الاستخباراتية بشكل أسهل وأكثر فعالية.
ما لا يعرفه الكثيرون، أنّ هذه الهُويّة ليست سوى اختراع صهيوني تزامن ظهوره مع أولى محاولات قومنة الديانة اليهودية، وفصل الهوية الدينية ليهود العالم عن أصولهم العرقية وجنسياتهم من أجل تشجيع حركات الهجرة الاستيطانية نحو أرض فلسطين. ففي بداية الحركة الصهيونية والموجة الأولى للهجرة اليهودية صوب "الأرض الموعودة"، أدرك مؤسّسو هذه الحركة الاستيطانية من نخبةِ يهود أوروبا أنّ إدماج العرب اليهود واستقطابهم كان شرًا لا بدّ منه. رغم كرههم العلني لليهود الشرقيين ولثقافتهم الدخيلة (من وجهة نظرهم)، إلّا أنهم كانوا بحاجة إلى عددٍ كافٍ من المستوطنين لتغيير البنية الديمغرافية لفلسطين.
وعقب تأسيس دولة الاحتلال، توالت عمليات ترحيل اليهود العرب من أوطانهم ("عملية بساط الريح" و"عملية عزرا ونحميا") ومحاولة إدماجهم ضمن مجتمع جديد عرف سيطرة اليهود الأشكناز، وخلق هُويّة مشتركة بينهم، بناءً على قواسم مشتركة تجمعهم. وهكذا، رُوِّجَت كلمة مزراحيم (Mizrahim) لجمع كلّ هذه الشعوب من الأمم المختلفة في فئةٍ واحدةٍ تمحو تاريخهم وثقافاتهم وهُويّتهم الفردية وتقاليدهم التي امتدّت لآلاف السنين في دولهم الأصلية. لكن عددًا من اليهود العرب فضّلوا تبني هذه الهُويّة على العودة إلى أصولهم أو استعادة علاقاتهم المقطوعة مع بلدانهم الأصلية، وعمل معظمهم على محاولةِ الاندماج في هذا المجتمع الفاشي غير المتجانس، في محاولةٍ بائسة للتغلّب على أزمةِ الهُويّة التي يعانون منها، لكونهم مستوطنين غرباء على أرضٍ ليست لهم.
وبناءً على ما ينصّ عليه القانون الدولي الإنساني، فإنّ استخدام القوّة المُفرطة أو التصفية خارج نطاق الإجراءات القانونية المشروعة يُعدّ انتهاكًا صارخًا للمنظومة القيمية الغربية واتفاقيات حقوق الإنسان التي أقرّتها معظم دول العالم عقب الحرب العالمية الثانية. ليس خرق الكيان الصهيوني للقانون الدولي بالأمر الجديد، إلا أنّ استخدام قوات سريّة لتنفيذ عمليات قتل واختطاف يُعدّ تصعيدًا في تحدّي القانون الدولي الإنساني، حتى بالنسبة إلى كيانٍ غير قانوني مثل دولة الاحتلال. تستخدم هذه الوحدات الخاصة التعذيب النفسي والجسدي وجميع أشكال العنف غير المشروع دون مبالاة بمعاهدات واتفاقيات حقوق الإنسان، التي لا تعدو أن تكون مجرّد أدوات نيوليبرالية تفرض الهيمنة الغربية على دول الجنوب العالمي. ومن زاويةٍ أخرى، يعترفُ القانون الدولي بمشروعية المقاومة المسلحة في إطار حق الدفاع الشرعي ومقاومة الاحتلال.
في ظلّ ضعف الآليات العقابية في القانون الدولي، تستمر دولة الاحتلال وحلفاؤها العسكريون في التنكيل بالشعب الفلسطيني باستخدام أبشع الطرق والوسائل دون مساءلة ولا محاسبة، ويبقى أمل أحرار العالم في مشروعية المقاومة، لا المنظومة الغربية ذات المعايير المزدوجة والغضب الانتقائي. ويبقى أملنا في نار الصديق التي تمحو نار العدو.