هل اعتدنا المشهد في غزّة؟
منذ بدء العمليات العسكرية من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزّة في السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل الماضي، أي ما يزيد على 150 يوماً، بدت بشكلٍ واضحٍ وجلي همجية الكيان الصهيوني ووحشيته.
هذا القصف الهمجي المُمنهج منذ اليوم الأول، وبشتى أنواع الأسلحة المحرّمة وغير المحرّمة، وهذا القتل العشوائي المقصود، لكلّ ما هو ساكن ومتحرّك، بدأ يظهر على مرأى ومسمع من القريب والبعيد، تارة في بثٍّ حيٍّ، وتارة منقولًا بعد فترة وجيزة لا تطول عن السويعات، والفضل في ذلك كلّه يعود لمؤسساتٍ إعلاميةٍ متخصّصةٍ، أو لأفراد منحتهم هذه الأحداث لقب المراسل الصحافي، حتى ولو لم يكونوا قد امتهنوا الصحافة من قبل.
مشاهد صدمت المتابع للقنوات الإعلامية الرسمية وغير الرسمية، وأيقظت غير المتابع عنوةً من هولها، وجعلته مذهولًا، غير مصدّق، لما يرى أو يسمع، وكان لهذا أن تنامت الأصوات الداعية للتضامن مع القضية الفلسطينية بشتى الأشكال؛ فالكثير من الناس أعادوا فتح ونشر الأوراق القديمة والمقاطع المصوّرة وغير المصوّرة عن تاريخ القضية والأحداث المهمة التي وقعت على أرض فلسطين التاريخية منذ الكنعانيين وحتى اليوم. كما أصبح الكثير منّا يبحث عن أيّة وسيلة تثبت تضامنه ورفضه لما يجري من جرائم، سواءً من خلال مقاطعة المنتجات الداعمة للكيان دعماً مباشراً أو حتى غير مباشر، وكذلك تكاتفت القلوب والضمائر بتوجيه الأدعية والصلوات لحفظ غزّة وأهلها، مع تكاتف الأيدي بمدّ العون بما تستطيع من تبرّعات مادية وعينية.
قد يكون الروتين اليومي قد اختلف بعد السابع من أكتوبر، لكنه ما لبث أن عاد واستقر، حتى ولو لم يعد كما كان تماماً، لكنه هدأ
لكن، كلّ ذلك والكثير من أشكال التضامن، والذي بدأ قويّاً صلباً يحظى بإجماع شعبي هائل، مثله مثل أيّ شيء في هذه الدنيا، له دورة حياة، فبعد البداية القوية المتمثلة بمشاعر الصدمة والألم بعد كلّ لقطة توّثق مجزرة أو قصف، أو حتى تشريد ونزوح، يأتي الشعور باعتياد المشهد، وبعد أن كان التأثّر واضحاً وبادياً عند سماع إحصائيات الشهداء بالعشرات، أصبحنا أقلّ تأثراً مع تجاوز الأعداد لحاجز الثلاثين ألفاً. هذا التعوّد يرجع إلى عدّة أسباب، أوّلها فقدان الحيلة لتقديم المزيد، فماذا بعد المقاطعة وإيجاد البدائل؟ وماذا بعد تقديم العون المادي؟ وماذا بعد النشر الكثيف لمقاطع الفيديو على مواقع وسائل التواصل حول ما يجري؟ وماذا بعد الخروج بمسيرات التضامن وبح الصوت بالهتافات الرنّانة؟ الحرب مستمرة والموت يحصد الأرواح. قد يكون الروتين اليومي قد اختلف بعد السابع من أكتوبر، لكنه ما لبث أن عاد واستقر، حتى ولو لم يعد كما كان تماماً، لكنه هدأ.
سبب آخر أدى إلى هذا الوضع، هو كيفية ما يصلنا عبر الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، فكان في البداية أحدنا ينصت بكلّ جوارحه ليستمع لمراسل أيّة قناة إعلامية حين ينقل خبراً عن غزّة، ولكن مع تكرار الأخبار، أصبحنا نسمع رتابة في الطرح وتكراراً للتعابير، واختفى عنصر المفاجأة والتشويق. لا أذكر ذلك تبريراً، بل عتاباً. وأخصّ بذلك المؤسسات الإعلامية والإعلاميين، فأنا أرى أنّ من المهنية أن لا يقعوا في فخ الاعتياد والرتابة حتى لا يكونوا سبباً في تعوّدنا، وأن يوظّفوا طاقاتهم وقدراتهم وما أوتوا من وسائل وأسلحة تقنية في الصناعة الإعلامية في سبيل إبقاء الخبر حيّاً، وصياغة الرواية والنص بعيداً عن التكرار، حتى لو تكرّرت القصة، وأن يبتدعوا ويبتكروا ما يشدّوا به المشاهد والمتابع، بل أن يشدّوا غير المتابع حتى يتابع، ويبقوا المتابع مشدوهاً ومشدوداً في كلّ مرة، وأن يعتمدوا قوة الأسلوب في الطرح والإلقاء وتنوّعه حتى لو تكرّر الخبر، لا أن يكتفوا بنقل الخبر بنفس المصطلحات، ونفس التعابير، ونفس المشاعر كلّ مرة.
ثلاثون ألفاً بازدياد، كلهم "يوسف الأبيضاني الحلو، شعره كيرلي!"، وكلهم "طارق وريم، روح الروح!"، كلّهم كان له ماضٍ، وكان لهم حاضر، وكان سيكون لهم مستقبل! كلّهم قصص تُروى في مجلدات، وليسوا مجرّد أرقام. كلّهم يستحق منا أقوى مشاعر الألم والغضب، كلّهم يستحق منّا التضامن والدعم، وكلّهم يستحق منا تغطية إعلامية ونشراً لكلّ العالم.