هزيمة كبيرة تستوجب التفكير

25 نوفمبر 2022
+ الخط -

"إنها هزيمة صغيرة لا تستوجب التفكير، إنّ كلّ إنسان مهزوم بمعنى معيّن، مع الإله، مع الحب، مع شيء ما، وحجم الهزائم يتفاوت من واحد لآخر، ومن وقت لآخر".

إلى هنا ينتهي الاقتباس من الكاتب والروائي الراحل عبد الرحمن منيف، لكن السؤال هو: كيف نتعامل مع هذه الهزائم "الصغيرة"؟

هناك مراحل للحزن وضعتها الطبيبة النفسية إليزابيث كوبلر روس، تبدأ "بالإنكار ثم الغضب ثم المساومة، يتبعها الاكتئاب، وأخيراً التقبّل". لكن كلّ هذه المراحل لا تغيّر شيئاً، فهي فقط خطوات مليئة بالشوك والعوسج في درب آلام طويلة، نهايته تمثيل سخيف بأنّ الإنسان نجا ونسي ومضى! إلى أين؟ إلى الخلاص! ولكن، وكما قال أجدادنا "الأسى ما بينتسا"!.

من يحدّد إن كانت الهزيمة صغيرة أم كبيرة؟ وقع الهزيمة على النفس أم آثارها وتبعاتها؟ ليس منطقياً بالطبع أن تتساوى الهزائم ولا التعامل معها، فالتعامل مع الخذلان ليس كما التعامل مع موت "من كان عزيزاً"! فكيف إن اجتمعا سوياً؟! وليس كما التعامل مع طريقة موت هذا العزيز، أو مع انتحاره، والانتحار هو هنا لفظ مجازي لا حرفي، وليس كل من يتنفس هو على قيد الحياة!

لا شك أننا جميعاً، كسوريين، نشعر بالهزيمة بشكل ما، وأستطيع هنا بالطبع أن أستثني أمراء الحرب ومصاصي الدماء القابعين على قمّة جبل قاسيون.

أنا اليوم أشعر بالخذلان من كل شيء، من الحياة والحب والبلاد، وهذا حقي كإنسان 

يقال، والعهدة على القائل، ولا أتبنى حرفاً من الجمل التالية: "تصرّف العرب بعد هزيمة 1967 كأنهم منتصرون (في إشارة إلى قرار عبد الناصر خوض حرب الاستنزاف وتنفيذ العمليات الفدائية التي أنهكت إسرائيل)، فيما تصرف العرب بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول كأنهم مهزومون، فوصلوا إلى ما وصلوا إليه اليوم". وللحقيقة بحثت طويلاً عن قائل هذه المقولة فلم أجدها، ولا أذكر أين قرأتها، لذا اعذروني لعدم ذكر مصدرها وخذوا مجازها.

بحسب معجم اللغة العربية المعاصر، فالهزيمة في اللغة العربية "انكسار وخسران: توالت الهزائم بعدما تفرّق شمل الأمة"، وفي المعجم الوسيط "الانهزام في القتال"، هناك إذاً العديد من التعريفات لمعنى الهزيمة التي أتحدّث عنها، وإذا نظرنا في ما بعد التعريفات الواردة في المعجمين، نستطيع أن نتبيّن مدى القسوة والخيبة والحزن الذي يصيب الإنسان بعد أن "يُهزم"، ويرى الأمر الواقع والظروف الموضوعية التي أوصلته إلى الهزيمة دون اللجوء إلى التبريرات اللامنطقية، والتي يرجو منها هدوء النفس وراحة البال، هذا في ما يخصّ المهزوم المدرك هزيمته والعارف معانيها وآثارها، والذي يعاني من قسوتها، سواء أكانت هذه الهزيمة في الحبّ أم في الحياة أم في الثورة.

ويجب عليه أن يكون صادقاً مع نفسه ويحلّل أسباب الهزيمة بصدق ليعرف ما يجب عليه فعله وفق ظروفه وإمكانياته، إن رغب في الاستمرار وعدم الاستسلام (هذا إن كان الطرف الأول انتصر فعلاً).

هل هناك خلاف بأنّ كثيراً منا، نحن السوريين (تعرفون من أقصد بكلمة سوريين أليس كذلك؟)، مهزومون ومأزومون، ونشعر بالخذلان أيضا؟

ومن حق المنتصر ألا يعلن عن الأسباب التي دعت لانتصاره، ولكن عليه، ليكمل هذا الانتصار، أن يكون صادقاً مع نفسه، حتى لو لم يكن الانتصار سوى استغلال لسذاجة وغباء الطرف المهزوم، وحتى لو كان مجرّد لعب على عاطفة لا تساوي شيئاً في زمن "الصوابيات" وانهيار قيم المعرفة والمشاعر الصادقة، وانهيار قيمة العاطفة الروحية لدى شريحة واسعة من الناس حتى لو جمعتهم السنون والتحديات والمعارك التي انتصروا فيها جميعاً، وزمن استبدال الكلمات الدّالة على المشاعر الصادقة بكلمات مستوردة باتت دستوراً دون أن نفهم معانيها، وبات علينا لزاماً أن نركض خلفها ونتبناها، ولو على حسابنا وحساب حياتنا.

الحكومات العربية ادّعت الانتصار على شعوبها بعد الربيع العربي، وكذلك فئات كثيرة من الشعوب ادّعت النصر لأنها "كسرت حاجز الخوف" في وجه هذه الأنظمة القاتلة

الجميع في العالم العربي يمكن أن يدّعي الانتصار، فمؤخراً حدثت خلافات بين سلطات الأمر الواقع في محافظتي إدلب وريف حلب شماليّ سورية، كلا الطرفين ادّعى الانتصار وبرّر تحركاته بالحفاظ على "مبادئ الثورة" (مضحك التبرير أليس كذلك؟)، والحكومات العربية ادّعت الانتصار على شعوبها بعد الربيع العربي، وكذلك فئات كثيرة من الشعوب ادّعت النصر لأنها "كسرت حاجز الخوف" في وجه هذه الأنظمة القاتلة.

تبدو هذه الكلمات الأخيرة أقرب إلى مقال كُتب منذ عقود، بلغته وصياغته والمشاعر التي يحملها، وما الضير في ذلك؟ احتملوني قليلاً، من احتمل كلّ هذا القهر السوري لن تؤذيه بضع جمل إضافية من كاتب لا يملك سلاحاً سوى الكلمات ونفذت ذخيرته تحت وطأة الأيام القاسية. عبّرت عنكم فدعوني أعبّر عن هزيمتي اليوم! واعذروني في ألا أشرح تفاصيلها، ولا كيف بدأت الحكاية، فكلّ هذا ليس مهماً لكم، ولا لأحد!

وهي لعلمكم هزيمة كبيرة تستوجب التفكير على عكس ما قاله أستاذنا عبد الرحمن منيف، حيث خلّفت الخذلان، أتعرفون ما هو الخذلان؟ هو ذلك الشعور الذي يخلّف حرقةً في القلب وجموداً في القناة الدمعية، وأنا اليوم أشعر بالخذلان من كل شيء، من الحياة والحب والبلاد، وهذا حقي كإنسان لم يكن قراره أن يصل إلى هذه الدنيا ولن يكون قراره أن يغادرها كذلك.

فهلّ لي وأنتم من قرأتم كلماتي وعبّرت عنكم أن تحتملوا "نواحي" قليلاً؟ أسيضيركم أن تسمعوا تعبي وقلقي معي؟ إن كانت الإجابة بلا فهذا حقكم، وإن كانت نعم، فأنا شاكر لكم، كما كنت دائماً وسأبقى.

تعالوا نتجاوز هزائمنا ونكساتنا وخيباتنا وخذلاننا، وإن لم أنجح، فيكفيني أن تتجاوزوها أنتم وسأكون سعيداً لأجلكم، وأهديكم في الختام أبيات شعر لأمل دنقل من قصيدة، كلمات سبارتاكوس الأخيرة:

يا قيصر العظيم: قد أخطأت إنّي أعترف

دعني -على مشنقتي- ألثم يدك

ها أنذا أقبّل الحبل الذي في عنقي يلتف

فهو يداك، وهو مجدك الذي يجبرنا أن نعبدكْ

دعني أكفّر عن خطيئتي

أمنحك -بعد ميتتي- جمجمتي

تصوغ منها لك كأسا لشرابك القويّ

فإن فعلت ما أريدْ:

إن يسألوك مرّة عن دمي الشهيدْ

وهل تُرى منحتني "الوجودَ " كي تسلبني الوجودْ 

فقل لهمْ: قد ماتَ.. غير حاقدٍ عليّ

و هذه الكأسُ -التي كانت عظامها جمجمته-

وثيقة الغفران لي".

أخيراً، كلّ خذلان وهزيمة، وأنا وأنتم بخير!

يامن المغربي
يامن المغربي
مخرج سينمائي سوري وصحفي في الشؤون السياسية والاجتماعية. يعبّر عن نفسه بالقول "الحياة تمضي".