هجرة غير محمودة
ما إن تدلُف إلى باحة "جاكسون" الموقف الشهير في العاصمة السودانية الخرطوم، حتى يُطالعك العم عبّاس علي إبراهيم حفظه الله ورعاه، بكتبه المُتناثرة، التي يفترش بها الأرض بين مسارات خطوط المواصلات العامة، واضعًا الكتب على "مُشمع" مُتهالك، لايزال يُقاومُ أشعةَ الشمسِ تارةً وتيارات الهواء التي تتلاعب بأغلفتها وأوراقها تارةً أخرى. تلك هي قِبلته الجديدة التي آوته بعد تشريده هو وأقرانه، وهذا هو المصير الذي آلت إليه "مواعين" المعرفة بعد إغلاق المكتبات العامة وهجرة مرتاديها.
الأوضاع أضحت مُغايرة الآن لما كانت عليه سابقاً، فالخرطوم التي كانت تتباهى يوماً ما، بمقولتها الشهيرة "القاهرة تكتب ولبنان يطبع والخرطوم تقرأ"، لم تعُد اليوم كذلك، ولم تعد تعني هذه المقولة شيئاً لجيلها الجديد، والذي فضّل المكتبات الإلكترونية على التقليدية، ضارباً بكلِّ الثوابت عرض الحائط، ومستسلماً لفضاءٍ واسعٍ، لا تحكمه حدود الجغرافيا والزمان، خلف شاشه جوّال يكاد طولها لا يتجاوز طول راحة يد الإنسان.
ولعلّ الصورة أعلاه لم تعُد حكراً على الخرطوم وحدها، بل جُلّ العواصم العربية تُعاني من هذه الظاهرة، فإغلاق المكتبات العامة، أمرٌ مُحزن للغاية، فهو بمثابةِ إغلاق منفذ ومُتنفّس من منافذ المعرفة. إنّ الكتب والمكتبات صارت مهجورة، لأنّ القراء استثقلوا حمل الكنوز الموجودة فيها، ولم يستطيعوا هضمها والصبر على دسامتها.
إغلاق المكتبات العامة، أمر مُحزن للغاية، فهو بمثابة إغلاق منفذ ومُتنفّس من منافذ المعرفة
ومشكلة العزوف عن القراءة لدى الغالبية، وعلى الأغلب، ليست في قِلّة الوقت، بل في انعدام الحافز والشغف، فمن لا يجد أيّ سبب يدفعه ليقرأ، فلن يتشجّع ليقرأ ويجعل القراءة عادةً لديه، ومتى ما وجد الحافز نحو القراءة فسيأتي وسيجدُ الوقت بالتأكيد.
والبديل للأسف، ما خَفّ حمله وسَخَف مضمونه، أي التصفح غير الهادف لصفحات وسائل التواصل الاجتماعي. وهكذا عادت الأميّة من جديد في عصر التنوير، لأنّ هذه الأجهزة الرقمية اخطفتنا من بعضنا، بل حتى من ذواتنا، ففقدنا فتنة القراءة الورقية، وسحر عطر المداد.
بشكلٍ عام، إنّ مسألة العزوف عن القراءة خطيرة جداً ولكن الأخطر ما يترتّب عنها من نتائج، وهذا مما لا يُخفى ضرره على بصيرٍ، ولا يَرى أثره إلا حصيف. حسّ الأمة وشعورها ووعيها الشخصي يُعّد من أوّل الاهتمامات، وقد آن الأوان أكثر من أيّ وقتٍ مضى لأن نفكّ الخيوط، وأن نبدّد فكرة اللاقراءة واللاكتاب.
كلّما قرأت أكثر، تتوّسع رحلتك في الحياة، وتصبح مليئة بزهور المعرفة
إنّ القراءة ليست سلوكاً مخصّصاً لأوقات الفراغ، بل هي سلوك أصيل تجب ممارسته يومياً، ليتحقّق لنا بناء أرواحنا، وقلوبنا، وعقولنا. والقراءة فِعل حبٍّ، لذلك كلّما قرأت أكثر، تتوّسع رحلتك في الحياة، وتصبح مليئة بزهور المعرفة، كما تتضمن رحلتك مع القراءة محطّات تطلّ على مناظر روحية مذهلة في جمالها.
وأنت أيّها العازف عن القراءة، والزاهد فيها، ولا أدري لِم؟ كن شجاعاً مرّة، ومقداماً أُخرى، وانهض بنفسك، ودع العزوف والكسل، وأقرأ صيد الخاطر، وانظر الفرق في ذاتك من قبل ومن بعد، فجرّب هداك الله ورحمك، ولن تخسر، وعساه أن يكون يوماً ما، مفتاح قلبك وعقلك لحبِّ القراءة.
جرب ولن تَخيب يا صَديق، لن تخيب أبدًا.