نوستالجيا رمضانية.. السودان بين البرهان وحميدتي
في الخميس الأخير من رمضان، يُعدّ السودانيون طعاماً خاصاً يُعرف بـ"الرحمات"، يتصدقون به على الفقراء والمساكين، ويعتقدون أنّ أرواح الموتى تأتي في هذا اليوم لتسلّم على أهلها. وإن سلمنا جدلاً بصدق هذا القول (ولا نعتقد بذلك)، فماذا ستقول الأرواح لأهلها الذين رُوّعوا في شهر الصيام؟ وهل ترضى تلك الأرواح عن تناحر البرهان وحميدتي؟ ولماذا لا يفكر الطرفان في حقن دماء الأحياء؟ وقد حُق للأرواح أن تجأر بالشكوى رافعة عقيرتها بصوت القدير عمرو مصطفى "في رمضان؟ في رمضان؟!".
في العشر الأواخر من رمضان، ليلة هي خير من ألف شهر، ليلة القدر، يقبل الناس على الطاعة أيّما إقبال، يحاولون اغتنام الليالي المباركة لعلها تكون المنجيات، يحثّ بعضهم بعضاً: لا تفرّطوا "وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ"، وبين غمضة عين وانتباهتها يُفطر سودانيون على أزيز الرصاص، يقضي بعضهم دون جريرة؛ فما اختلاف صيام حاملي السلاح في وجه بني جلدتهم عن حج أبي نواس؟ وعلى ذكر الجمع بين الصيام والحج، فقد سئل بعض المغفلين: أتذكر أن حجّ الناس في رمضان؟ ففكر ساعة ثم قال: "إي، أظن مرتين أو ثلاث مرات".
يُطلق على الأيام الأخيرة من رمضان أيام التواحيش، يرفع المبتهلون أصواتهم (لا أوحش الله منك يا شهر الصيام/ لا أوحش الله منك يا شهر القيام/ لا أوحش الله منك يا رمضان/ يا شهر الكرم والإحسان/ يا شهر الخير والغفران)؛ فكيف يستمهلون الشهر هذا العام، والحال هذه؟! ألم يكن من الحكمة ضبط النفس وحقن الدماء؟ أم صحيح أنّ "اللي اختشوا ماتوا".
كلٌّ على ليلاه غنّى، ولعل المتناحرين كانوا يستعجلون انقضاء الشهر ليكشّروا عن أنيابهم، لكن أسباباً لا ندركها حتى اللحظة عجّلت بالشر، والشيء بالشيء يذكر، فهلال رمضان (ككل ما خلق الله تعالى) ممدوح مذموم، سبق أن تحدثنا عمّن مدحوا الشهر الفضيل، والفيلق الآخر له مسوّغات لـ"تشهيل السفريّة" (بلغة السكك الحديدية) والعودة إلى الظروف العادية، بدأها الأعرابي الذي نقل لنا خبره ابن قتيبة في عيون الأخبار، إذ ترك بيت ابن عمه الذي ألزمه الصيام، وزعموا أنه من قدح في شهر رمضان فيما وصلنا، وتتابعت القصص تترى.
بين غمضة عين وانتباهتها يُفطر سودانيون على أزيز الرصاص، ويقضي بعضهم دون جريرة
في باب استعجال الملذات والتبرّم من الطاعات، نجد همام بن غالب بن صعصعة الفرزدق (أبو فراس)، قد فتح باباً في الشعر للتطاول على شهر رمضان، فيقول ابن العصر الأموي:
إذا ما انقضى عشرون يوماً تتابعت/ أراجيفُ بالشهر الذي أنا صائمه ودارت رقاعٌ بالمواعيد بيننا/ كما يلتقي مظلومُ قومٍ وظالمه.
شجّع ذلك الأخطل التغلبي على أن ينحو المنحى ذاته، كان يتهيّب أن يفتح هذا الباب، غير أنّ أبناء البيت طرقوه، هذا يدفع عنه الحرج، ويحدوه أن ينتقل بالمسألة إلى مستوى أعلى وأن يرفع السقف.
يدخل الأخطل يتطوّح من السّكر في بلاط عبد الملك بن مروان، كان مدلّلاً لدى الخليفة، لكن ليس إلى درجة أن يدخل عليه بهذه الصورة. يغضب جرير بن عطية الخطفي، قائلاً:
أفي رمضانَ تشربها جِهارًا/ وتدخل للخليفة لا تبالي
أفِق يا عبد تغلب لستَ كفئاً/ لِما حملتْ عداواتُ الرِّجال
ولو شاء الخليفةُ كان سيفي/ مؤدّب ذي الضلال من الضلال
ولأنّ "اللي بيزمّر مبيغطيش دقنه"، أجابه الأخطل:
شربناها ودار بها علينا/ أغَنُّ مُطَرْطَقٌ وافي السِّبالِ
إذا سمع المؤذن وهْو يدعو/ تنكَّب عنه آخرةَ الليالي
ولي دينٌ وللأعرابِ دينٌ/ تُشدُّ إليه أكوارُ الرِّحالِ
فما لابن المراغةِ يجتويني/ وما يدري الحرامَ من الحلالِ
ولو شاء الخليفةُ كان عندي/ أذلَّ على الطريق من النِّعالِ
وبلهجة لا تخلو من عتاب، وإن تلبّست بلباس الغضب، يقول عبد الملك: أفي رمضان وتقرّ بشربها؟ ثم أمر به إلى السجن.
يتشفّى جرير في خصمه:
ستشربُ في السجن التي ما شربتَها/ بكأس ولا دارت عليكَ بحانِ
فهذا جزاء الكافرين إذا انتهوا/ إلى غايةٍ من ذِلةٍ وهوانِ
ويرد الأخطل لا يلوي على شيء وهو في طريقه للحبس:
ستسمعُ ما لم يسمع الناس مثله/ ولا شهد العُبادُ في رمضانِ
إذا ما تهادتها القبائل لم تجد/ بآفاقها إلا أذلَّ مكانِ
ويتحرّق بشار بن برد شوقاً لعيد الفطر، فينشد:
قل لشهر الصيامِ أنحلتَ جسمي/ فمتى يا تُرى طلوعُ الهلالِ
اجهد الآن كلَّ جهْدِكَ فينا/ سترى ما يكونُ في شوالِ
والحسن بن هانئ (أبو نواس) على الطريق ذاتها، إذ يقول:
لقد سرّني أنّ الهلال غُديَّةً/ بدا وهو ممشوقُ الخيال دقيقُ
أضرَّتْ به الأيام حتى كأنه/ سِنانٌ لواه باليدينِ رفيق
وقفتُ أعزيه وقد دقّ عظمُه/ وقد حان من شمس النهار شروقُ
لِيَهْنَ وُلاةُ اللهو أنك هالكٌ/ فأنت بما يجري عليك خليقُ
وإني بشهرِ الصومِ إذ بانَ شامتٌ/ وإنّكَ يا شوالُ لي لصديقُ
لقد عاودتْ نفسي الصبابة والهوى/ وحانَ صَبُوحٌ باكرٌ وغَبُوقُ
من الطرائف أنّ الملك المعظّم الشاعر عيسى الأيوبي، الملقب بمأمون بني أيوب، طلع إلى مئذنة جامع دمشق لرؤية الهلال ومعه الشهود، فلم يرَ الهلال أحد منهم، ولكن رأته جارية من محظياته، فقال الملك المعظم لابن القصار الشاعر: قل في ذلك شيئاً؛ فأنشد:
توارى هلال الأفق عن أعين الورى/ وغطّى بستر الغيم زهواً محيّاه
فلما أتاه لاجتلاء شقيقه/ تبدّى له دون الأنام فحيّاه
فأجازه الملك جائزة سنية.
بعيداً عن بؤرة الصراع، فإن أواخر الشهر المبارك لها وقع خاص في نفوس المسلمين، فمن التقاليد السورية تدريب الأطفال على الصيام شيئاً فشيئاً، ما يعرف عندهم بـ"درجات المئذنة"، إذ يبدأ تدريب الأطفال من سن السابعة على الصيام، فيبدأ من أول الشهر إلى العاشر منه بالصيام إلى الظهر، ثم إلى العصر، وبعد ذلك يصوم إلى المغرب يومًا في الأسبوع، فكأنه يصعد إلى المئذنة تدريجيًا، وفي العراق أمر مشابه مع اختلاف يسير في التفاصيل.
وينقل لنا الرحالة الأندلسي ابن جبير حكاية غلام مكيّ من ذوي اليسار دون الخامسة عشرة، احتفل أبوه به عقب ختمه للقرآن العظيم في ليلة ثلاث وعشرين، فأعد له ثريا صُنعت من الشمع، وهي ذات غصون علِّقت فيها أنواع الفواكه اليابسة والرطبة، وأعدّ له والده شمعاً كثيراً، ووضع وسط محراب مربع أقيم على قوائم أربع تدلت منه قناديل مُسرجة، وأحاط دائرة المحراب المربع بمسامير مدبّبة الأطراف، غرز فيها الشمع وأوقِدت الثريا، ووضع الأب بمقربة من المحراب منبراً مُجللاً بكسوة متنوعة الألوان، وحضر الإمام الطفل فصلى التراويح وختم وقد غصّ المسجد بالناس.
يحرص الجزائريون على إعلان خطبة أبنائهم، في ليلة القدر، وكذلك ختان أطفالهم استبشارًا بالليلة المباركة
وتدريب الأطفال على الصيام عادة راسخة في المجتمع المغربي، تسمّى في بعض المناطق "التشهير"، ليست تهمة يعاقب عليها القانون، بل مكرمة ودفعة معنوية للأطفال الذين يصومون للمرة الأولى في عمرهم، وفي 26 رمضان يُلبس الأهالي هؤلاء الأطفال ملابس جديدة، ويقيمون وليمة خاصة احتفاءً بهذه المناسبة، تشجيعاً لأبنائهم واحتفالاً بإنجازهم.
في الجزائر، تعرف هذه العادة باسم "يوم النفقة"، تقام في بداية رمضان أو في منتصفه أو ليلة السابع والعشرين، يعدّ الجزائريون مشروباً خاصاً من الماء والليمون والسكر، يوضع به خاتم من الذهب، وبعد انتهاء المشروب يكون الخاتم من نصيب الفتاة التي تصوم للمرة الأولى.
ويحرص الجزائريون على إعلان خطبة أبنائهم، في ليلة القدر، وكذلك ختان أطفالهم استبشاراً بالليلة المباركة، بينما في تونس تكون حفلات الخطبة خلال النصف الأول من رمضان، ويقدم الشاب لعروسه الموسم في ليلة السابع والعشرين من رمضان، ويتفق التونسيون والجزائريون في يوم الختان، ويحتفل التونسيون بالختان في حفل تحييه فرق الإنشاد المعروفة بـ"السلامية".
في الأردن، يُطلق على الأيام الثلاثة الأخيرة من رمضان "أيام الجبر"، إذ تُجبر خواطر الفقراء بالمساعدة والزكاة والصدقة، في الكويت أطلقوا على آخر أيام رمضان "يوم النشر"، إذ تنتشر الفرحة بالصيام والعيد معاً، والمسمّى ذاته يُطلق على يوم عرفة. أما في السودان، فيطلقون على الليلة الأخيرة من ليالي رمضان "ليلة الحنجرة"، فمن توفي بعض أهله (في وقت قريب) يقيم عزاءً ويقدّم للمعزين المشروبات والتمر؛ هذا صنيع السودانيين أمس، فماذا سيصنع السودانيون اليوم؟!