نهاية الطغاة

16 ديسمبر 2024
+ الخط -

يتساقط الطاغية ويتوارى إلى العدم والنسيان وتتلاعب به ألسنة اللعنة والتحقير والشماتة والاستهزاء ويُوأد في ملكوت اللاموجود واللامفكر فيه بعد عقود قضاها في بناء وهم المجد والخلود وتشييد أوهن بيوت التفاخر والتعاظم والغطرسة والتجبر، وتتهاوى معه جيوش المخابرات وجحافل رجال الشرطة بعد أن ظلت تحميه وتذود عن مصالحه ومصالح عائلته وحاشيته وبطانته لعدة عقود، روّج من خلالها لقوة وعراقة مؤسسات الدولة لم تر النور يومًا من الأيام. ينمحي اسمه قبل مغادرة جسده كرسي السلطة ويتحول إلى نكرة تستجدي سبل التعريف والتذكير وتتساقط تماثيله وينقطع القربان وأوهام الربوبية والجبروت.

يتخلى عنه الحلفاء بعد سقوط مصالحهم أو إيجاد البديل الذي يتنازل أكثر ويبدي السخاء الأوفر، تضيق به السبل ويلفظه الكرسي الذي تفانى في عبادته وتقديسه، بعد محاولات يائسة وبائسة وأخيرة تسوّل خلالها الدعم من هنا وهناك، وحتى من الأعداء، رغم مرارة الشماتة والاستهزاء بالكرامة التي ودّعها منذ زمن سحيق وتمادى في مصادرة كرامة شعبه وإذلاله وتحويله إلى وعاء تفريغ اضطراباته النفسية والذهنية وعقد النقص اللامتناهية في دواخله.

استمالته الأهواء والغرور وطوباوية الأوهام، حوّل أكاذيبه إلى حقائق وأوهامه إلى ركائز تضخم وتجبر، اعتدى وطغى وصال وجال في ظلمات المحذور والمذموم، وأسقط المقامات والوقار، وجعل لنفسه قوانين ودساتير تأتي على الأخضر واليابس، وجرّد الجميع من الحقوق والملكيات. صادر الماء والهواء والزرع والأمل ونشر الجفاف والقحط واليأس والقنوط والرعب وتفنن في هندسة الأزمات والإخفاقات، ساد واستقوى ونشر الهشاشة والجهل وأسس للفقر وشرع له وحكم بالترويع والترهيب والتهديد والتشريد ومأسسة الفقر والحاجة، وادّعى الرشد والحكمة والعلم وأركان الكمال والقوامة. هجّر الناس وأفرغ البلاد من العقول والسواعد، وسجن الأبرياء والأوفياء من أبناء الوطن، وتفنن في القمع والقهر والتعذيب والتقتيل والتنكيل. ادّعى الألوهية من حيث لا يدري وتحكم في مصائر الناس والأرزاق، وشتت شمل العائلات وقال للجميع لا أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد، فكان القول قوله والفعل فعله وكل صغير وكبير تحت إمرته.

تدور عليه الدوائر ويلتمس الفرار ومغادرة البلاد تاركًا إياها غارقة في الهشاشة، مبعثرة الأركان بعد عقود من الفوضى المنظمة والفساد والعبث، يفر إلى وجهة سيد يؤويه ويحميه ويظل هلوعًا جزوعًا منبوذًا عسى أن يكرمه المولى بالخلاص الرباني، الذي قد يرحمه من عذاب واقع الذل والهوان والسقوط الذي اختاره منفى وملاذًا. كان عبد الأهواء والأوهام والنزوات وأسياد الخارج، ويفنى عبدًا صغيرًا خذله الأرباب الذين قدسهم وابتغى رضاهم ودعمهم وظل سعيه هباءً منثورًا.

أليست قوة الحاكم الحقيقي في شرعيته، ولا شرعية إلا تلك التي تنبعث من عمق الشعب، ومن حب أبنائه، والانغماس في خدمته والانفتاح على أوجاعه والانسياب مع طموحاته؟

أليست قوة الحاكم الحقيقي في شرعيته، ولا شرعية إلا تلك التي تنبعث من عمق الشعب، ومن حب أبنائه، والانغماس في خدمته والانفتاح على أوجاعه والانسياب مع طموحاته؟

تستمد الشرعية وتؤسس من قلب عمليات البناء الحقيقية وليس بالاسترسال في الزيف والكذب والتضليل وترويج البروباغاندا والأكاذيب. إنما تهم بقدر أوسع وأعمق: الاستثمار في العقول المحلية وتأهيلها للنهوض بالواجبات الوطنية واحترام قدراتها وذخائرها، بناء وعي جماعي رصين يمتلك الحس النقدي والتحليلي وغير القابل للاستمالة والاستلاب، بناء كرامة الناس وتقديس حقيقتها قولًا وعملًا، ترسيخ روح المؤسسات التي تضمن سيادة القانون وفصل السلطات وتقديس العدل والعدالة وليس بالاقتصار على البنايات والتمظهرات المادية، بناء اقتصاد وطني قوي يجد لبنته الأساسية في المقاولات الصغرى وحيوية طموح خلق الثروة وعدالة توزيعها على الجميع، بناء القيم وترسيخها بالممارسة والاحترام من قبيل الشفافية والمحاسبة والعمل الجاد، وقبل كل شيء، في حضور الإرادة الحقيقية لخدمة الوطن والناس والتضحية من أجل إقلاعه ونموه.

لنا في التاريخ رجالات كُتب لهم الخلود والمجد لما قدموه من تضحيات للبلد وتفانوا في تثبيت فضائل القيم والأخلاق وكبح نداءات الغرائز والأهواء وسلطة الماديات مقابل سمو جمال المعنوي والروحي وحب الناس.

عزيز أشيبان
عزيز أشيبان
عزيز أشيبان
كاتب مغربي، يعرّف عن نفسه بالقول "نوعية اهتماماتك ومخاوفك تحدّد هويتك".
عزيز أشيبان