نبيه الأهبل في زيارة الشيخ علام الدين
كان الناس في تلك الأيام البعيدة، يعتبرون كثرة الأولاد نعمة تُباس عليها اليد وجهاً وقفاً. وكانوا، بمجرد ما يتحول صوت ابنهم من شيء يشبه "نَعْوَصَة الجراء" إلى شيء يشبه صوت "جرش البرغل"، يوقنون أنه قد "نَقَّـرَ معه اللوزي"، أي: عبر من مرحلة الطفولة إلى مرحلة المراهقة.. ووقتها يهبون للبحث له، بأسرع ما يمكن، عن بنت حلال، ضمن مواصفات شبه موحدة لدى الجميع، وهي أن تكون: ابنة عائلة مستورة، وأمية لا تفك الحرف "فالمتعلمة برأيهم يمكن أن تكتب المكاتيب وترسلها لعشاقها!"، وطشمة "غبية"، لا تفرق بين طه وأنطاكيه، وماكينة شغل، وغانمة، يعني حَبَّالة جَيَّابة.
وهذا ما كان من أمر العم أبي أحمد الذي تزوج وهو في سن السادسة عشرة، من ابنة عمه التي تصغره بسنة أو أقل من سنة، وأنجبت له، من دون فاصل منشط، خمسة صبيان وأربع بنات، "عدا الإجهاضات التي لا تدخل في الحساب". وبعد سنوات قليلة شبشب الفتيان، وصاروا يربون شواربهم، ويفتلونها إلى الأعلى، ويلبسون القنابيز العربية، ويلفون حول خصورهم الشالات العجمية، ويحملون بأيديهم السبحات من نوع "الكهرمان" ويمشون مع أبيهم، وحينما يدخلون ساحة الخضرة، على نسق، يبدو الأب، لصغر سنه، وكأنه واحد من رفاقهم، وليس أباهم!
وكان أن خطب أبو أحمد لأبنائه وزوّجهم، واحداً بعد آخر، وفرح بهم، على إيقاع الطبول وترغلة المزامير، وأمسك في رأس الدبكة، وكذلك زوج البنات فاستقال من همهن. إلى أن جاءه ولد الغفلة المغضوب "نبيه"، فجعل آخر أيامه أشبه ما تكون بقفا الدست من فرط سوادها.
إذن، لقد طُرد "نبيه"، كما أسلفنا، من المدرسة، طرداً بائناً بينونة لا رجعة عنها، وسلمه المدير لأبي أحمد مع إضبارته، فمشى نحو البيت، محني الظهر، ومشى "نبيه" خلفه وهو يخبخب بالجزمة ذات الساقين الطويلين، ويدمدم بعبارات غير مترابطة، ولكنها تعبر عن لامبالاة قاتلة، فكأنه الفتى الذي أضاع جحشة خاله، إن وجدها يغني وإن لم يجدها يغني!..
وشرع أبو أحمد يفكر بطريقة يحفظ فيها ماء وجهه، فلا تفتضح كبرتُه بين الناس، ولكنه لم يصل إلى نتيجة، فلما كان في البيت لاحظت أم أحمد أنه منزعج ومتضايق، يتشاجر مع ذباب وجهه، فجلست قربه وشرعت تطيِّب خاطره، وتقترح عليه بعض الحلول لمشكلة ابنهما "نبيه"، وهو لا يرد، إلى أن خطرت لها فكرة جهنمية، وراحت تمسك ذقنه بيدها وتدير وجهه نحوها وتقول له:
- أرجوك أبو أحمد، اسمعني.. خطرت لي فكرة ستعجبك.
أخيراً قال: نعم؟ ما هي فكرتك؟
فأوضحت له أن حالة ابنهما نبيه، لا تحتاج إلى لف ودوران ومواربة، فهي حالة جنون واضحة، وأنها، أي الحالة، لم تأت من فراغ، بل هي، بالتأكيد، ناجمة عن عين صيابة، و"كْتيبة سحرية" مكتوبة له بيد ابن حرام لا يخاف الله. وعلى الرغم من خطورة الموقف، فإن الحل موجود، وهو الذهاب إلى مزار الشيخ علام الدين.
قال أبو أحمد: مزار الشيخ علام الدين بعيد، وأنا ما عندي دواب لنركبها ونذهب إليه.
قالت: خذني بحلمك، ودعني أشرح لك الفكرة. يا سيدي، أهل الحارة، قصدي كل واحد من أهل الحارة، عنده "بلوة مكبرتة" مثل ابننا نبيه وزيادة، لذلك قرروا أن يقوموا بزيارة جماعية إلى مزار الشيخ، وقد استكروا البوسطة التي تنقل الركاب إلى حلب، وسألوني إن كنا على استعداد لمرافقتهم، وأنا وافقت.
لو أن ما كان يجري في تلك الأيام يجري على زماننا، لكان لزاماً على أهالي المرضى الذين أخذوهم إلى مزار الشيخ علام الدين بقصد أن يبلوا ويشفوا أن يحملوا بعضهم في سيارات الإسعاف السريع، إلى أقسام العناية المشددة في المشافي العامة، ويرسلوا بعضهم الآخر، مثل صاحبنا "نبيه"، دونما توان، إلى جناح المجرمين الخطرين في مشفى الأمراض العقلية بالدويرينه، وأما المريض الميؤوس من شفائه فيجدر بهم أن يتركوه في بيته ويديروه على القبلة، ويقرؤوا له ما يتيسر من قصار السور، حتى يموت على الإيمان، وبين أهله.
المهم، وصلت طلائع البوسطة التي تقل أهل الحارة إلى مزار الشيخ علام الدين مع غروب الشمس، تبرك الزوار بالمزار، وسقوا المصابين من الماء القليل الذي يرشح من سقف المقام، ودهنوا أجسامهم بالماء، وناموا، عدا اثنين منهم، الأول هو صاحبنا وبطل سيرتنا "نبيه" الذي قام بجولة تفقدية على زوادات الطعام التي خبأها الزائرون لغداء اليوم التالي، أكل محتوياتها جميعاً، وجلس جانباً مثل الحية البالعة! والثاني مريض مسن أنهكه تزاحم العلل والأمراض فجلس يئن من دون انقطاع قائلاً: آخ يا خَيّ.
فجأة خطرت لنبيه فكرة رائعة نفذها في الحال، إذ أخذ ينتظر المريض حتى يقول: آخ يا خي آخ. فيرد عليه، لاثغاً بالحروف الصافرة كعادته:
- وقواص في زلعومتك!
- آخ يا خيي!
- ورصاص في صرصورة أذنك!
- آخ!
- وسلاخ يسلخ جلدك عن لحمك.
وهكذا، حتى توقف المسن عن الأنين. وبالطبع، فإن صاحبنا نبيهاً لا يمتلك من النباهة ما يكفي ليعرف أن الرجل المسن قد مات!