نوستالوجيا رمضانية.. موائد الرحمن بين التاريخ و"كريمة"!
في لقاء تلفزيوني، قال أستاذ الفقه المقارن والشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، أحمد كريمة، إنه ضد ما سماها "مائدة الرصيف"، في إشارة إلى موائد الرحمن، وقال "فيها إهانة للناس ورياء وإخراج للناس من بيوتهم وفضحهم على قارعة الطريق"، وأضاف: "لا نريد أن نربي جيلًا على كره الوطن، لا قدّر الله"، مستطردًا "حين يأتي صبي أو مراهق لا يأكل على طبلية البيت أو على صينية البيت، ويأكل على الرصيف ويقف في طابور وينتظر البون، فهذه مهانة".
كلام كريمة (ونُحسن الظن فيه، وفي غيره) لم يخل من مفارقات ضمنية، فمائدة الرحمن صورة من صور التكافل الاجتماعي، وتربية جيل على كراهية الوطن مبالغ فيها، إذ إنّ المرء حين يعيش في بيئة يتراحم أهلها ويكفل بعضهم بعضًا لن تقوى نوازع الشر فيه، سيميل إلى حب الخير، وإذا فتح الله له باب رزق سيتذكر الضعفاء والمحتاجين، وقديمًا قيل "إنّ الكرام إذا ما أيسروا ذكروا/ من كان يألفهم في الموطن الخشن"، اختلفوا في قائله، فنسب لأبي تمام ولدعبل الخزاعي، وفي مصادر أخرى دون نسبة.
عدنا إلى المصادر لنبحث في بواكير ظهور موائد الرحمن، لنرى إن كانت منذ ظهورها سببًا في وحر الصدور على المجتمع أو باعثًا من بواعث كراهية الوطن، ونترك الحكم لفطنة القارئ وألمعيته.
أول ما وقفنا عليه في مسألة موائد الرحمن يأتي من القاهرة، إذ اجتمع والي الدولة العباسية ومؤسس الدولة الطولونية فيما بعد أحمد بن طولون (220- 270هـ) بأعيان في قصره، من أجل الاحتفال بقدوم شهر رمضان المبارك، ثم خطبهم "إني لم أجمعكم حول هذه الأسمطة (جمع سِماط، والسماط المأدبة) إلا لأعلّمكم طريقة البرّ بالناس، ولذلك فإني آمركم من الآن أن تفتحوا بيوتكم وتمدّوا موائدكم وتملأوها بأحسن ما ترغبون لأنفسكم، فيتذوقها الفقير والمحروم"، ثم أمر أن يعلّق هذا القرار ليراه الجميع، وأن يعاقب كلّ ممتنع عن تقديم واجبه نحو الفقراء.
ويعود الفضل إلى خمارويه بن أحمد بن طولون في تأسيس مدرسة لتعليم فن الطهي وإعداد المائدة، وذاعت شهرة الطباخين حتى تخطفهم الملوك والأمراء والأثرياء بأعلى سعر وأغلى أجر، إذ كانوا عملة نادرة في ذلك العصر.
أيام الدولة الفاطمية، كان إذا أقبل رمضان بسطت الأسمطة وعليها المأكولات والأطعمة بأشكالها وأنواعها، لم يحضرها الفقير والمعوز فحسب، بل كان الأمراء يتنافسون على حضورها تودّدًا إلى الشعب وتقرّبًا منه
هذه مبادرة قدمها ابن طولون، دعا إليها ورغّب فيها بادئًا بنفسه، وأعلنها وأذاعها بين الأغنياء، ليقدموا خدمة مجتمعية وحقًا من حقوق الفقراء التي كفلها الإسلام، والدعوة إلى الخير تشمل السرّ والعلن. ومائدة الرحمن وجه من وجوه الدعوة إلى التكافل في العلن. بعد الترغيب إلى ذلك الصنيع جاء الترهيب بمعاقبة كلّ من يمتنع عن تقديم واجبه نحو الفقراء.
والسؤال: إذا رأى الفقراء ذلك، فهل من العقل والحكمة والمنطق أن تغلي مراجل صدورهم كراهية للوطن؟ أبعدت النُجعة يا سيد كريمة، لعلك تقصد أنّ الدخل الكريم يعف الناس عن المزاحمة بالمناكب والركب على موائد الرحمن، وهذه لفتة طيبة نشكرك عليها، لكن من المسؤول عن توفير الرواتب المناسبة للموظفين والعاملين من محدودي الدخل ومعدوميه؟! فإذا لم يتح لهم ما يسدّ الرمق ويساعد على الكفاف، فماذا يفعلون؟
وجاءت الدولة الفاطمية (358- 567هـ)، فإذا أقبل رمضان بسطت الأسمطة وعليها المأكولات والأطعمة بأشكالها وأنواعها، لم يحضرها الفقير والمعوز فحسب، بل كان الأمراء يتنافسون على حضورها تودّدًا إلى الشعب وتقرّبًا منه، وبذلك تزيد اللحمة المجتمعية والدعم الإنساني وتقل الفجوة بين "الناس اللي فوق والناس اللي تحت"، مع التقدير للراحل نعمان عاشور.
وفي رمضان، كان لؤلؤ الحاجب يوزّع يوميًا اثني عشر ألف رغيف مع الطعام، ويشرف بنفسه على توزيع الصدقات، وكان يضع ثلاث مراكب كبيرة مملوءة بالطعام للفقراء، فإذا فرغ من إطعام آلاف الفقراء بسط سماطًا لجنوده ثم يجلس معهم لتناول الإفطار.
وفي دولة المماليك البحرية، أقام الملك الظاهر بيبرس (625-676هـ) عددًا من المطابخ في القاهرة وربوع مصر، لتقديم الأطعمة والحلوى للفقراء والقادمين إليها من الفقهاء والعلماء، فتقام المائدة أو توزع أطعمة المطابخ عليهم ليتناولها المتعفّفون مع أسرهم في بيوتهم. اتبع بيبرس تقليدًا آخر تمثّل في توزيع عدد من أحمال الدقيق والسكر والمكسرات ولحم الضأن على الفقراء، وذلك بإشراف المحتسب أو ناظر الدولة، ليتمكّن الفقراء من إقامة المآدب التي تحلو لهم داخل دورهم. بلغة اليوم كان بيبرس يوزع (كرتونة رمضان)، لكنها تختلف كمًا وكيفًا.
اعتاد بعض الحكام والسلاطين على صرف التوابل للفقراء في رمضان من خزانة التوابل، خاصة ماء الورد والعود والبخور
يومها، كان للميسورين مطبخان في بيوتهم، أحدهما للرجال والثاني للحريم، وعند الإفطار تُفرش الموائد لكلّ من يطرقها، فتوضع صينية عليها من الخيرات ما شاء الله في غرفة الاستقبال قبل غروب الشمس، وتضم مرطبات ومكسرات والبلح والتين واللحم والأرز، ويجلس بعض أهل البيت يستقبلون من يحضر من غير دعوة، وبعد الإفطار يؤدّون الصلاة ثم يشربون القهوة.
لم ينته الأمر عند ذلك الحد، بل إن بعض الحكام والسلاطين اعتادوا على صرف التوابل للفقراء في رمضان من خزانة التوابل، خاصة ماء الورد والعود والبخور.
وفي الدولة نفسها، وضع السلطان حسن بن محمد بن قلاوون (صاحب المسجد المشهور في القلعة) لمسة جديدة في عالم العطايا الرمضانية، إذ استُحدثت في عهده "وقفية السكر"، سميت بذلك لأن الإقبال على شراء السكر في رمضان واستهلاكه يزيد، خصوصًا مع عمل الحلوى والمشروبات بأنواعها، وللسبب ذاته قرر السلطان حسن صرف رواتب إضافية لطلبة العلم والأيتام.
وكانت عطايا أخرى من اللحم والخبز والأرز والعسل وحَب الرمان تقدّم للناس، وكل ذلك تحت اسم "وقفية السكر" التي يقول نصها "يصرف كل يوم من أيام شهر رمضان ثمن 10 قناطير من اللحم الضأن، وثمن 40 قنطارا من خبز القرصة، وثمن حب رمان وأرز وعسل وحبوب وتوابل، وأجرة من يتولى الطبخ وتفريقه، وثمن غير ذلك مما يحتاج إليه من الآلات التي يُطبخ بها، علاوة على السكر الذي يوزع بمعرفة رجالنا".
وفي دولة المماليك البرجية، دأب السلطان برقوق المملوكي على ذبح 25 بقرة يوميًا في رمضان، يتصدق باللحم مع ما يُطبخ من الطعام، وما يُخبز من آلاف الأرغفة على أهل الجوامع والرباط والسجون.
الريف المصري في رمضان حالة من الإنسانية والرحمة والمودة، حيث تعدّ الموائد خارج الدار ليأكل منها الغريب والمسكين وابن السبيل وكل من يودّ
الريف المصري في رمضان حالة من الإنسانية والرحمة والمودة، حيث تعدّ الموائد خارج الدار ليأكل منها الغريب والمسكين وابن السبيل وكل من يودّ، فهذا الكاتب عبد الرحمن الشرقاوي، صاحب رواية "الأرض"، يحكي: "كنا نحن الصغار نحاول أن نتعوّد الصيام، ونقضي النهار نحاول أن نحفظ القرآن الكريم، وأن نجوده، ونقلّد طريقة أحد القارئين المشاهير في التلاوة. وكان من الأعراف المستحبة في رمضان أن يصنع القادرون طعاما كثيرا طيبا ويمدون الموائد في القاعات الخارجية للدور، ويفتحون الأبواب ليدخل كل صاحب حاجة من أهل القرية أو من أبناء السبيل ويُفطروا معًا".
ويقول الأستاذ أحمد حسن الزيات صاحب "الرسالة: "أما رمضان القرية، فلا يزال يحل من أهله محل النور من العين، والبهجة من القلب... هنالك يملك القرية شعورٌ تقيٌّ هادئٌ خاشع، فلا تعود تستمع لغوًا في حديث، ولا عنفًا في جدل، ولا بغيًا في خصومة، فإذا أذهل أحدَهم الغضبُ فرفع صوته، ندِم عجلان واستغفر ثم قال: اللهم إني صائم! ذلك لأنّ رمضان يُرجع الفلاح نقيًا كقطرة المُزن طاهرًا كفطرة الوليد، يمشي من البيت إلى المسجد في ثوبه النظيف وائد الخطو غضيض الطرف، لا تترك السُّبحةُ يده ولا يفتُر عن التسبيح لسانُه".
ويضيف: "يقضون صدر النهار في تصريف شؤون العيش، ثم يجلسون على المصاطب في أشعة الأصيل الفاترة، يستمعون القصص أو الوعظ حتى إذا تضيّفت الشمس (أي حالت للمغيب) جلسوا في الطريق أمام بيوتهم، فمدّوا الموائد على الأرض ودعوا إليها عابري السبيل وطالبي الصدقة، ثم لا يلبث الإخاء المحض أن يجعل الموائد المتعدّدة مائدة واحدة يصيب منها من يشاء ما يشاء".
هذه صور سريعة من الشهر الفضيل في مصر، سجّلها التاريخ بتفاصيلها، تنطق ملامح الناس بين سطورها، لا تحتاج مجهودًا كبيرًا لاستخلاص العبرة منها، والراحمون يرحمهم الرحمن.