من الإفراط والتفريط إلى الوسطية
نظير الكندوري
حينما دخل الداعية والمفكّر الإسلامي، سيد قطب، في حوارٍ مع مؤسّس حزب التحرير الشيخ تقيّ الدين النّبهاني في خمسينيات القرن الماضي، حاول أن يقنعه بالعمل مع الإخوان وتبني طرحهم الفكري، لكن النبهاني رفض ذلك بشدّة، لاعتقاده أنّ العمل السياسي هو السبيل الوحيد والأهم لإعادة نهضة الأمة الاسلامية، فما كان من قطب إلا أن قال مقولته الشهيرة: "دعوهم فسينتهون من حيث ابتدأنا".
وعلى هذا المنوال، شهدت فترة ما بعد سقوط آخر خلافة إسلامية في بداية القرن العشرين، محاولات عديدة لإعادة توحيد المسلمين، وأن يكون لهم دولة قوية في مواجهة التحديات التي تواجههم. لكنها في عمومها، لم تنجح في الوصول إلى ذلك ولم تصمد أمام التحديات الجسام، بل لم تستطع التأثير في المجموع العام للمسلمين. ومردّ ذلك لأن كلّ جماعة كانت تفهم الإسلام من زاويةٍ واحدة، وفي الغالب تكون متطرّفة في رؤيتها، سواء بالإفراط أو بالتفريط.
ومع نهايات القرن الماضي، وتراكم الضغوط على المسلمين، سواء من قبل الأنظمة التي تَحكُم بلدانهم، أو من قبل القوى الدولية التي ترى في عودة دولة الإسلام تهديدًا خطيرًا لها، بدأت تظهر حركات وجماعات إسلامية تتخذ من المنهج المتشدّد سبيلًا لإحداث التغيير الإسلامي في بلدانها، ورفض كلّ ما يمتّ بصلة للعالم الغربي أو الشرقي، سواء كان ذلك على الصعيد السياسي أو الاجتماعي وحتى الاقتصادي، بل إنهم رفضوا كلّ حداثة يكتسبها العالم ما دام مصدرها الغرب أو الشرق غير الإسلامي، حتى لو كانت تلك الأمور الحداثية لا تمس أو تسيء إلى ثوابت الإسلام أو عقائده. كما اتخذت لتحقيق أهدافها، العنف المسلّح ردَّ فعلٍ على العنف الذي كانوا يلاقونه، وشيئًا فشيئًا، وصل هذا العنف إلى مرحلة التوحّش كما رأيناها في تنظيم القاعدة وداعش وبوكو حرام وحركة الشباب المجاهدين الصومالية وغيرها من الحركات المتطرفة، ما ترك انطباعًا سيئًا عن الإسلام وعن فريضة الجهاد.
وعلى الرغم من نجاح هذه الحركات في تحقيق نجاحات عسكرية مؤقتة، لكن واحدة منها لم تنجح في الوصول إلى بناء دولة تضمن فيها حقوق المسلمين، وتتعامل بشكلٍ منسجم مع العالم، بما يمكنها من الحفاظ على تجربتها. وبسبب هذا التشدّد، خسروا حاضنتهم الشعبية، وبسبب رفضهم التواصل مع العالم، بقوا محاصرين ومعزولين عن العالم في مناطق منعزلة، فلا هم وصلوا إلى أهدافهم، ولا هم أراحوا الناس منهم، بل إنهم يتحملون المسؤولية، بنسبة ليست بالقليلة، عن نفور شباب المسلمين من أي توجّه إسلامي، بل بدأ هؤلاء الشباب ينساقون إلى المفاهيم الغربية، سواء كانت ليبرالية أم إلحادية أحياناً.
التساهل في اكتساب القوّة أمام خصوم غير شرفاء، هو خطأ كبير ارتكبته الجماعات الوسطية الإسلامية
مع ذلك، استدرك بعض الحركات الخطأ الفادح الذي اقترفوه، واكتشف حجم الضرر الذي قاموا به لقضيتهم الإسلامية وقضيتهم الوطنية من حيث لا يعلمون. من تلك الحركات حركة طالبان، فبعد أن تمكنت من الانفراد بحكم أفغانستان عام 1994، سرعان ما انهارت بعد أن بقيت في حكمها معزولة عن العالم، وطبَّقت فهمها المتشدّد للإسلام في محاولة لتطبيق أساليب الحياة المستوحاة من القرون الأولى في الإسلام، لا بمعناه العقائدي، إنما بمعناه الفيزيائي والحَرْفي، وهذا يتناقض بشدّة مع ما وصلت إليه الشعوب والأمم من تغيير في أساليب الحياة، ويتناقض أيضًا مع عادات الشعب الأفغاني ومفاهيمه، رافق ذلك عداءٌ غربيٌّ كبيرٌ لتجربتهم، فكان مصير التجربة هي الفشل. لكن مع سقوط حكمهم على يد الأميركان عام 2001، واضطرارهم إلى خوض حرب استقلال طويلة دُفع فيها سيل كبير من الدماء، تكلّل جهدهم بالنصر وانسحب المحتل الأميركي من أفغانستان عام 2021، حينها فوجئ المراقبون من طريقة حكمهم الجديدة وطريقة تعاملهم مع المواطنين ومع العالم، حيث تغيّرت سياستهم الداخلية عما كان عليه الحال في تجربتهم الأولى، وكأننا أمام حركة جديدة عملت مراجعات مهمّة في أساليب عملها وقناعاتها، ما جعل تجربتها الثانية أكثر نضجًا وأكثر قبولًا بسبب انحيازها إلى الوسطية في فهمها للإسلام.
لاحظنا أثر تلك المراجعات في سياستهم الخارجية والداخلية، واتجاههم السريع إلى مشاريع التنمية وبناء المجتمع، واستطاعت حركة طالبان تحقيق نجاحات كان يمكن لها أن تكون نجاحات باهرة لولا الذاكرة السيئة لدى العالم عن تجربتها الأولى في الحكم، والتي ما زالت عالقة في الأذهان.
مراجعاتهم هي التي قادتهم في النهاية إلى العودة للفهم الوسطي للإسلام، لأنه الفهم الوحيد الذي يمكنه النجاح بمواجهة التحديات الفكرية والحضارية والأمنية لهذا العالم المتغيّر، وهو الفكر الذي يحافظ على الإسلام من خطر الإفراط والتفريط.
وعلى هذا المنوال نفسه، مضت حركة "هيئة تحرير الشام" في مسيرة طويلة ناهزت الثلاث عشر سنة، تحوّلت فيها من التطرّف والمغالاة وتبني الجهاد الأممي الذي لا تحدّه حدود، إلى الاعتدال والعمل على استقلال الأوطان لينعم فيها المسلمون بالأمن والأمان والعدالة الاجتماعية، فنرى اليوم هذه الجماعة التي تُصنّفها كثير من دول العالم "جماعةً إرهابية"، نراها اليوم تُحرج العالم بتصرّفاتها المعتدلة والوسطية والمتوافقة مع القوانين الدولية التي تُبيح للشعوب المحتلة أو التي ترزح تحت نير الاستبداد والدكتاتورية، تأسيس حركات شعبية تحرّرية تهدف إلى التخلّص من الاحتلال والاستبداد والدكتاتورية، من دون المساس بعقيدتها الإسلامية أو التخلّي عنها، حتى وصل الأمر إلى أنّ كثيراً من دول العالم الآن لا تعرف كيف تتعامل مع هذا التحوّل المذهل لدى أحمد الشرع وجماعته الجهادية.
لا الإفراط بالعنف يصل بنا إلى غاياتنا، ولا الانبطاح للمستبد والمحتل يحقق كرامتنا، إنما الفهم الحقيقي والعميق لغايات ومقاصد الإسلام هي التي تصل بنا إلى شاطئ الأمن والأمان
في المقابل، لم تتمكّن الحركات الإسلامية الوسطية في الوصول إلى أهدافها في بلدانها رغم مرور ما يقارب القرن على انطلاقها؟ ونعتقد أنّ السبب في ذلك يعود لضغوط الأنظمة العربية وهجماتها الشرسة عليها، لأنّ هذه الأنظمة تعتبرها، من أكثر الجماعات خطورة على وجودها ومصيرها. وبما أنّ هذه الجماعات الوسطية ابتعدت عن أن يكون لها شوكة تدافع بها عن نفسها أو لديها القوة على فرض التغيير في بلدانها، فقد وجدت نفسها الطرف الأضعف في صراعها مع هذه الأنظمة. وهذا ما يقودنا إلى السبب الثاني لفشل هذه الجماعات بالوصول إلى أهدافها، ويتمثل بالركون إلى الممارسات الديمقراطية لتحقيق الأهداف، في بلدان لا تعترف أصلًا بالديمقراطية ومستعدّة للانقلاب على إرادة الشعوب إذا ما كان خيارها هو التصويت لصالح الإسلاميين الوسطيين، فانطلت عليهم الخدعة وخسروا وقتًا طويلًا بقيت فيها الشعوب ترزح تحت نير الاستبداد والدكتاتورية.
ومن ثم، إنّ التساهل في اكتساب القوة أمام خصوم غير شرفاء، هو خطأ كبير ارتكبته هذه الجماعات الوسطية، وإذا ما أصروا على خياراتهم تلك، فسيكون مصيرهم هو القتل أو السجن أو التشريد، فليس من الحكمة، بل من الخور أن يتم التعامل مع الحكّام المستبدين بشعار "سلميتنا أقوى من الرصاص".
ونعتقد، أنّ هذه الجماعات، إذا شاءت الوصول إلى تحقيق أهدافها، فعليها القيام بمراجعاتٍ شبيهة بالمراجعات التي قامت بها بعض الجماعات المتشدّدة مثل هيئة تحرير الشام، ولكن بالاتجاه المعاكس، قبل أن تغادرهم الشعوب وتلحق بمن يحقّق لهم كرامتهم وحريتهم وممارسة عقيدتهم.
نحن الآن على مفترق طريق لا بدّ فيه أن تقوم كلّ الحركات الإسلامية، بمراجعات لأساليب عملها وإعادة فهمها للإسلام بشكل عميق يتناسب مع التغييرات الهائلة التي حدثت في العالم، فلا الإفراط بالعنف يصل بنا إلى غاياتنا، ولا الانبطاح للمستبد والمحتل يحقّق كرامتنا، إنما الفهم الحقيقي والعميق لغايات ومقاصد الإسلام هي التي تصل بنا إلى شاطئ الأمن والأمان.
إنّ تجربة المراجعات التي قامت بها فصائل الثورة السورية والتي انتقلت بها من التطرّف إلى الوسطية من دون إسقاط فرضية الجهاد، هي تجربة يمكن البناء عليها على اعتبارها التجربة الناجحة الثانية في عالمنا الإسلامي بعد تجربة طالبان في أفغانستان. وإذا ما نجحت هاتان التجربتان، فإننا سنكون أمام مشهد جديد يُقرّ بأنّ الوسطية والاعتدال مع اتخاذ أسباب القوّة، هي الوصفات الناجحة لأيّ عمل إسلامي لبناء الأوطان وتحقيق المطالب وتحكيم شرع الله.