ملف: كوني امرأة لا يعني صكّ عبوديتي (24)
ما زلت أذكر جملتها، تتردّد في سمعي كصدى واسع المدى.. "أنا حُرة"؛ تلك الكلمة التي تفور لها الدماء، وتحتدم العروق، وتتشدق الأعصاب، ويغلي ماء وجه بعض الرجال حين تُلقى على أذانهم كصاعقة من السماء.
فاطمة، نيّرة، سلمى، زينب؛ بعضهن شخصيات حقيقية، وأخرى من وحي خيالي المُتعب. اجتمعن على الكلمة نفسها "حُرّة"، لا أعرف من أين أتين بها في ذلك الوطن المكلوم. ماذا تعني الحرية؟ لا أعرف، ولكن، أذكر سلمى حين قابلتها في خيالي، سألتني: هل قرأت لرضوى عاشور؟
فأجبتها: نعم.
- - إذًا، كيف لا تعرف معنى الحرية!
أشعر بالإحراج، كثيرًا، حين أُجالس فاطمة، تصغرني بعامين، وتكبرني في المعرفة، هي شابة حُلوة، صبيحة الوجه، ليست من وحي خيالي، مع الأسف، هناك امرأة أكثر ثقافة مني. تقدّم لخطبتها رجلٌ لا يعرف عن الثقافة شيئًا، ولا يدري من فنون الأدب وجوامع الكلِم قيد أنملة، تحكي لي فاطمة كيف كان لقاؤهما:
"حين جلس الأفندي، وبين يديه علبة الشوكولا، ظل يفحصني من أعلى إلى أسفل، وكأن فحصي صار ثمن علبة الشوكولا على مرأى ومسمع من عائلتي. أسدل الصمت ستاره، فاخترقه بصوته الغليظ: "لو كتب الله لنا أن نصبح سويًّا.. أود منك أن تتحجبي".
صراحة لم أغضب منه، ولكني ذُهلت! أيّ سلطة تلك التي يملكها كي يظن أنّ باستطاعته فحصي وإجباري على أيّ رداء إذا تزوّجنا؟ كأنني خاتم في خنصره. لكني لم أسكت، انطلقت أُحدّثه عن سارتر في فرنسا، وتشيخوف في روسيا، وديكنز في إنكلترا، ومارك توين في أميركا، وبجواري أمي تنخز ذراعي، تغمزني، تلمزني، علّها تلجم لساني، والأفندي مُصفر الوجه، مُحمّر الخد، لا ينطق بكلمة واحدة، كلّ ما فعله، بعد انتهائي من خطبتي الثقافية العصماء، أن نظر إلى والدي فوالديه، وهو يقول: تشرفنا!
مَن يظن نفسه، كوني امرأة لا يعني امتلاكه صكّ عبوديتي.. أنا حُرة.
لا أهوّل من فعل فاطمة، فهي ثائرة، قادرة على الإتيان بحقها ولو في بطن الحوت، ولكن زينب، شابة عشرينية، صحافية، أنهكتها (كما تقول) السلطة الأبوية في بيتها، وعملها؛ عنّفها زوجُها؛ تلقت لكمات وركلات من مُختل مفتون بجون سينا وذا روك (ممثلان ومصارعان)، قضى أهلها عليها أن تلبس زيًّا معينًا، لا تخلعه أبدًا؛ ومن مكتب عملها طُردت، لا أعرف السبب، سوى أنّ رئيس الجريدة الصحافية التي كانت تعمل بها، السيد الإعلامي البارز المُحترم، أراد التحرّش بها، بكلمات وغمزات ثم بحركات يد، وحين أبتْ الانصياع، واضعة حاجزًا بينها وبينه، حاول هدمه، بتهديدات ومراوغات.
"الشايب العايب، حسبته ابن أصول، لكنه.."
مسكينة زينب، ليست كفاطمة، أو هي الظروف مختلفة بين الاثنتين، في رقبة زينب طفلان، حاولت السعي وراء حلمها ونشر أول رواية لها، ولكنها لم تفلح؛ لأنّ دور النشر لا تنشر لمغمورين، تضحك، تبكي، تُطلق النكات، تسخر من الحياة ونفسها، تُخبرني: "كم عدد الكلمات التي نستخدمها بصيغتها المؤنثة؟ ألم تلحظ أنّ (اللغة) ككلمة بمفردها، أُنثى. هل علمت أنّ المرأة هي المعبود الرئيس في الحضارات القديمة قبل إزاحتها من على عرش الربوبية واعتلاء بعل مكانها". نعم أعرف كل هذا، ولكن غيري لا يعرف.
أمام العالم كله، تقف سناء عبد الفتاح لتهز عرش الطغاة باسم أخيها المُعتقل. لا خاب من استشار امرأة
نيّرة أشرف، طالبة في كلية الآداب، بالتأكيد تعرفها، قُتلت على يد شاب ادّعى حبها، كوني مُرشحًا لشغل منصب معيد في الجامعة نفسها، في الكلية ذاتها، جعلني ذلك أشمئز من كوني "هنا"؛ ففررت بنفسي، ومن مدينة المنصورة كلها.
زارتني سلمى في الحلم، فتاة الخيال مرّة أُخرى، وفي يدها صورة نيّرة مخضبة بالدماء، أومأت برأسها تجاه لوحة معلقة؛ جِمالٌ وخيولٌ تتضارب، قطعت حبل أفكاري: هل تعرف أم المؤمنين عائشة؟
- - نعم، ومن لا يعرفها!
- - تعرف عائشة زوجة النبي. فهل تعرف عائشة المُحدثة، الطبيبة، المؤرخة، الخطيبة والقائدة؟
- - ...!
- - إذن لا تعرف عائشة.
كلهن نساء مررن في حياتي، وتركن أثرًا واضحًا، سواء في أحلامي أو واقع عملي كصحافي، ولكن، هل عندي الجرأة لأن أعترف بأني أفقر ثقافة من فاطمة، وأجبن من زينب، وأهون من نيّرة، وأضعف من سلمى. لا، لأني.. أخشى مواجهة نفسي، كباقي الرجال. إنّ الرجال فوارسٌ لكن لا سلطة تعلو على النساء، هُن المؤنسات الغاليات، يتيم هو من ليس في حياته امرأة. أذكر علاء عبد الفتاح، مَن يُناصره خارج السجن، سوى أم وأختين، أمام العالم كله، تقف سناء لتهز عرش الطغاة باسم أخيها المُعتقل. لا خاب من استشار امرأة.
في الأخير، لا أجد امرأة في حياتي أشكرها على شيء، سوى واحدة، غذّت عقلي بالكتب، وملأت مكتبتي بفنون الأدب من كل لون وجنس: أختي، هل شكرتها ذات مرة، لا أعرف، لا أذكر، ولكن، ها هي الفُرصة سانحة، شكرًا وفاء، لولاك ما قُرئ لي حرفٌ، لست مُتأكدًا أنك ستقرئين مدونتي تلك، ولكن، لعلها شاهدة على فضلكِ.