ملف| بعد مرور 90 يوماً.. هل يشعر المصريون بالإهانة؟ (11)
لم أتعجب قط من حديث الطفل الفلسطيني المصاب بحروق بالغة إثر إحدى الغارات الإسرائيلية على قطاع غزّة المحاصر، عن رغبته في زيارة النادي الأهلي المصري وتشجيعه ولبس قفازات حارس مرماه. فمن يعرف غزّة وأهلها، يدرك خصوصية تعلّقهم وغرامهم بكلّ ما هو مصري، ليس فقط بحكم الجغرافيا، بل بحكم التاريخ أيضًا، القديم منه والمعاصر. ولعل البعض لا يعرف أنّ قطاع غزّة كان تحت الإدارة المصرية المباشرة من بعد نكبة 1948 حتى نكسة 1967، وحين حدث العدوان الثلاثي على مصر 1956، احتلت إسرائيل قطاع غزّة، كما جزءا كبيرا من سيناء لأشهر معدودة، وحين انسحبت عاد الحاكم الإداري المصري للقطاع محمولًا داخل سيارته على أكتاف الغزيين تعبيرًا عن فرحتهم وامتنانهم بعودته.
ربّما يختلط عليك الأمر حين ترى مقطعًا مصوّرًا لبعض الشباب يقفزون في الهواء فرحًا حول شاشة تلفاز كبيرة، وهم يشجعون منتخب مصر في بطولة الأمم الأفريقية لكرة القدم، فتظن أنّ المشهد مصوّر في أحد المقاهي الشعبية في الإسكندرية أو الجيزة، حتى تُفاجأ بأنّه مقهى في غزّة، ثم يخرج الفلسطينيون في غزة في مسيرات إلى الشوارع يحتفلون بإحراز الكأس، وكأنّ المنتخب الفلسطيني هو من فاز بها، وليس المصري.
أحيانًا، يكون الغوص في أعماق التاريخ وسيلة للهروب من الواقع، لكن التاريخ في الحالة المصرية يحول دون ذلك، لأنّ مصر هي مصر التي أتاها إخوة يوسف عليه السلام من فلسطين ببضاعة مزجاة يسألون عزيزها الصدقة، هي التي تحققت فيها نبوءته، فسكنها وإخوته الأحد عشر حتى صار الأسباط أو أبناء يعقوب عليه السلام، هم النواة المؤسّسة لبني إسرائيل الذين اضطهدهم فرعون على أثر نبوءة كهنته بزوال ملكه على يد أحدهم، فهرب بهم موسى عليه السلام إلى سيناء التي حكم عليهم فيها بالتيه 40 سنة، حتى جاء أمر الله وفتح عليهم "أرض العماليق"، أو فلسطين مرّة أخرى.
ولأّن مصر هي مصر التي لجأت إليها السيدة مريم العذراء هربًا برضيعها المسيح عليه السلام، من بطش ملك اليهود، هيرودس، حين خاف ضياع ملكه على يد رضيع من أحفاد (داوود)، فأمر بذبح كلّ من ولد حديثًا في مدينة بيت لحم.
لم يذكر التاريخ أنّ أناسا لجأوا إلى مصر فخذلهم أهلها أو نبذوهم حتى، وإن كانوا على غير دينهم أو ثقافتهم
ولأنّ مصر هي مصر التي لجأ إليها آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى رأسهم السيدة زينب بنت علي رضي الله عنهما، هربًا من بطش يزيد بن معاوية، بعد قتله سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنه، فاستقبلهم الناس بالبهجة والترحاب، وعاشوا وماتوا ودفنوا في أرضها.
لم يذكر التاريخ (بحسب علمي) أنّ أناسا لجأوا إلى مصر فخذلهم أهلها أو نبذوهم حتى، وإن كانوا على غير دينهم أو ثقافتهم، كما فعلوا مع الأرمن الهاربين من جيش الدولة العثمانية نهاية القرن الـ 19 وبداية القرن الـ 20، وذلك مما يعمّق الشعور بالإهانة بعد 90 يومًا من الحرب على غزّة!
يتعمّق الشعور بالإهانة حين نرى أطنانًا من المساعدات عالقة عند معبر رفح "المصري"، لا تمر إلا بتفتيش من حرس الحدود الإسرائيلي، فيمرّر ما يشاء ويمنع عن أهلنا وإخواننا ما يشاء.
نشعر بالإهانة حين نعلم أنّ الغزي يشرب الماء المالح، أو يشتري الماء الحلو بباهظ الأثمان ونهر النيل يجري أمامنا، ولو نملك أن نحوّل مصبه من دمياط ورشيد إلى غزّة لفعلنا.
نشعر بالإهانة حين يطالب المتحدث باسم وزارة الصحة الفلسطينية المستشفيات المصرية برعاية الأطفال الخدّج وإنقاذ حياتهم، فلا يُستجاب له إلا فيما ندر.
نشعر بالإهانة حين نرى بطولات أهل غزّة أمام عجزنا وصمودهم أمام هزيمتنا
نشعر بالإهانة حين نعلم أنّ نصيب الغزي من الطعام في اليوم، ربّما يكون رغيفًا من الخبز، يشقى للحصول عليه، بعد أن قصف الاحتلال جميع المخابز في غزّة. نشعر كذلك بالإهانة حين نرى بطولاتهم أمام عجزنا وصمودهم أمام هزيمتنا.
حتى ردّ إدارة النادي الأهلي على الطفل الفلسطيني سالف الذكر، جاء باردًا مبتورًا لا معنى له، "رسالة ابننا (علي) وصلت ومحل اهتمام كبير من مجلس إدارة الأهلي"، وكان لا بدّ من أن يزيدوا في رسالتهم "نتعاطف معك يا (علي) بقلوبنا لأنّنا عاجزون عن فعل شيء".
نشعر بالإهانة حين لا يذكرنا الفلسطينيون بخير أو حتى بشر، كأنّنا صرنا لا شيء، شعبا يربو عن المائة مليون إنسان عاجز، حتى عن الهتاف أو رفع الصوت.
نشعر بالإهانة، لكنه شعور له ما بعده، مهما أبدينا من التجاهل وعدم الاكتراث، وهذا ما حكاه التاريخ عن أحوال المصريين في الصبر، وفي الثورة كذلك، فاعتبروا يا أولي الألباب.