ملف: النقاب... عنصرية ثقافية وعنف مجتمعي (20)

15 يونيو 2023
+ الخط -

يذكرني "فيسبوك"، في كلّ عام بتلك الصورة التي أثارت الجدل قبل ثلاثة عشر عاماً. إنها صورة من منصة مؤسسة "العفيف الثقافية" في صنعاء لأمسية قصصية؛ كنّا فيها ثلاث أديبات، ويديرها زميلنا المسؤول الثقافي في المؤسسة.

ما أثار الجدل يومها، ليس محتوى الفعالية الثقافي، ولا مستواها، بل كون من اعتلى المنصة مجرّد فتيات "منقبات"، إذ بدأت بعد الأمسية التعليقات المتجهمة والساخرة، ليقول البعض إنه لا يؤمن بأيّ إبداع يخرج من خلف النقاب، كما لم يسلم زميلنا الذي أدار تلك الأمسية (مشكوراً)، من السخرية اللاذعة، وصار يشعر بالندم لأنه لم يُوكل أمر إدارتها لغيره.

 لم ينتهِ الأمر بجدل فيسبوكي (فروّاد "فيسبوك" حينها، كانوا أقل بكثير من اليوم)، بل تمدّد النقاش حتى وصل إلى الصحف! وصار كلّ من يريد يُطلق الأحكام التعصبية مع وضد مُرتديات النقاب. برّر البعض ممن كانوا ضد المنقبات، بأنّ الثقافة تفرض على المرأة أن تثور على تلك الخرقة التي وصفوها بـ "المتخلفة"، وأنّ عليها ألا تستسلم لها، فيما تعاطف البعض مع من ترتدي النقاب لأنه قرار غير شخصي، بل سلوك مجتمعي إجباري. كما خاطبتني إحدى الإعلاميات المعروفات بشكل مباشر: "لا بدّ أن نضيّق على المنتقبات ولا نعطي لهن أي فرصة للعمل في الجانب الثقافي والإعلامي والمجتمع المدني، فهذا الضغط سيدفعهن للثورة على النقاب".

تجد المرأة المثقفة نفسها بين مطرقة الفكر وسندان المجتمع، تنفصم شخصيتها بين قناعتها بأن يكون لها وجه وهوية كسائر البشر، وبين سلطة المجتمع التقليدي المتشدّد؛ فهي تنتمي فكرياً لمجتمع، وسلوكياً لمجتمع آخر، فتتصارع في داخلها بين قناعتها في أحقيتها في شيء، وجبروت السلطة المجتمعية، لا سيما في غياب القوانين التي تحمي النساء من العنف.

فوجئت بأنّ وجهي ملكية عامة لكلّ الذكور في أسرتي، بدءاً بإخوتي، وانتهاءً بأبناء عمومة والدي! 

قضيت سنوات من حياتي، ومثلي العديد من الصديقات والزميلات، مجرّد كائنات مطموسة الهوية، مخفية الملامح، مجرّد أشباح سوداء تمشي على الأرض بلا وجه يميّز هُوّيتنا، وحينما قرّرتْ كلّ واحدة منّا خلع النقاب، خاضت حروباً كثيرة وواجهت عنصرية أشدّ ضراوة من مقاومة الحرب والصواريخ، حتى وصل الأمر إلى حدّ الترهيب والعنف والمطاردة لغرض التشويه والقتل! كما وصل الأمر ببعضهن إلى الهرب إلى خارج البلد للنجاة بحياتهن ووجوههن! إنه المجتمع ذاته الذي يذهب إلى الفعاليات الثقافية، ولو سألت الحاضرين والمنتقدين، لوجدت الأغلبية الساحقة من قريباته يرتدين النقاب بمباركته. وبالطبع، من كان يزدري نقابنا لن يقف إلى صفنا في حروبنا هذه، فهي أشرس من مجرّد كونها نظرات الازدراء التي كان قادراً عليها.

حينما كنت في الثامنة من عمري، وجدت نفسي أرتدي الشرشف التركي كأمي وجدتي، لم يفسّر لي أحد لماذا؟ ولا ما الذي سيضيفه لي أصلاً، حتى كبرت واكتشفت أنه لم يكن إضافة، بل سالب لأشياء كثيرة مني. ولكنني، حينما قرّرت التخلّي عن ارتدائه، بعد ما يقارب الثلاثين عاماً من محاولة التعايش معه، تهيّبت كثيراً من تنفيذ قراري. وبعد أن أخذت الإذن من أبي، فوجئت بأنّ وجهي ملكية عامة لكلّ الذكور في أسرتي، بدءاً بإخوتي، وانتهاء بأبناء عمومة والدي! لقد نقموا على تصرّفي بشدّة، ونسبوا قراري لأقذر الأفكار التي تخطر ببالهم لا ببالي أنا! حتى إنهم لم يروا بأساً من "ذبحي"، فيما لو صادفني أحدهم سافرة الوجه، ليكون هو البطل التاريخي الذي يُطهّر شرف العائلة، ويعيد للقبيلة هيبة ذكورتها!

إلى متى تظلّ المرأة المخلوق الوحيد الذي يعاني هذه العنصرية، من بين سائر الكائنات الحيّة؟ وإلى متى تبقى الوحيدة التي تُرغم على العيش بلا هوية، والوحيدة التي تُحرم من حق التنفس الطبيعي واستنشاق الهواء؟