ملف العنصرية: "البحث عن دفء شموس أخرى" (31)

22 يوليو 2023
+ الخط -

غادرت الجنوب

لأقذف بنفسي إلى المجهول ...

أخذت جزءاً من الجنوب لأزرعه في تربة غريبة

لأرى إن كانت ستنمو بشكل مختلف 

إذا كان بإمكانها أن ترتوي من أمطار جديدة 

تنحني في رياح غريبة 

وتستقبل دفء شموس أخرى..

"دفء شموس أخرى" هي قصيدة للشاعر الأميركي من أصول أفريقية ريتشارد رايت، من ديوان "ولد أسود"، الذي هاجر من الجنوب الأميركي نحو شيكاغو سنة 1920. تحوّلت القصيدة لاحقاً إلى عنوان عمل تاريخي ألمعي، يتحدّث عن الهجرة العظيمة لستّة ملايين أميركي من أصول أفريقية، من الريف الجنوبي للولايات المتحدة الأميركية نحو الشمال منذ مطلع القرن العشرين، بين عامي 1915 و1970، تلك الهجرة التي غيّرت وجه أميركا إلى الأبد.

استلهمت الكاتبة، إيزابيل ويلكرسون، اسم القصيدة ليكون عنوان كتابها الذي يُعتبر واحداً من أبرز الكتب التي أرّخت مرحلة "الهجرة العظيمة" في الولايات المتحدة، والتي بقيت دائماً داخل ظلال التجاهل التاريخي لمرحلة "معيبة" من تاريخ الحلم الأميركي.

الكتاب الذي كان نتيجة الاستماع إلى أكثر من ألف شخص، واستغرق إعداده عشر سنوات، يروي القصّة من خلال ثلاث شخصيات رئيسية؛ إدوارد لويس، وإدا ماي، وجورج ستاركس. هذا الهروب الطويل والشاق، والذي تمّ دون تخطيط وتنظيم، كان هروباً من الاستغلال في مزارع جنوب نهر الميسيسبي نحو عالم متمدّن. "الغراسة الجديدة في أرض غريبة" بتعبير الشاعر رايت، كانت بداية محنة جديدة لزراعة شعب مُضطهد داخل مجال جديد معادٍ لهم أيضاً. ولكنه كان من ناحية أخرى، البذرة الأولى لحركات الحقوق ومناهضة العنصرية ضد السود في أميركا.

ماكينة الكره العنصري داخل المراكز الرأسمالية تكوّنت من منطلقات عرقية وثقافية مرتبطة بإرث استعماري كرّس موقفاً دونياً نحو الشعوب المستعمَرة

حين التقيت "إسماعيل" مع رفاق رحلته الطويلة، كانوا نائمين تحت سور مصنوع من جريد النخيل، في حرّ بلغ تسعة وأربعين درجة مئوية، في طرف مدينة، نفطة، التونسية، التي تبعد خمسمائة كيلومتر جنوب العاصمة تونس... كان إسماعيل الوحيد الذي يستطيع التحدّث بفرنسية رطنة وسط رفاق رحلته الأطفال (كان أكبرهم يبلغ من العمر عشرين عاماً وأصغرهم أربعة عشر عاماً). هذه المجموعة كانت محظوظة على خلاف كثيرين، إذ جادت عليهم السماء بأن عثر عليهم "أحمد"، وهو بدوي مفعم بمشاعر ماركسية إنسانية، حصّلها أيام وجوده في الجامعة. هبّ لنجدتهم حين وصل إليه نبأ وجود مجموعة من الأفارقة تائهة في الصحراء. يتحدّث "إسماعيل"، بينما كنتُ أحاول بصعوبة فهم ما يقول، إذ يروي: "بعد أحداث صفاقس حاولت الهرب مع رفاقي إلى أن أُلقي القبض علينا، ونقلت مع أفارقة من جنسيات أخرى، نحو الحدود التونسية الجزائرية". ثمّ يواصل إسماعيل، قائلاً: "حاولنا الدخول نحو الجزائر عائدين إلى وطننا غامبيا (وهو يعني هنا أنهم كانوا ينوون اجتياز أكبر صحراء في الكرة الأرضية، غريب كيف تتحوّل الجغرافيا عند هؤلاء إلى أرقام بلا معنى!) إلا أنّ الدرك الجزائري ألقى علينا القبض، وأعادنا بعنف نحو التراب التونسي".

 تنام هذه المجموعة في زريبة للجمال متراصة في هذا الحرّ الشديد، وكأنها تبحث عن دفء ما. وجودهم معاً هو أملهم الوحيد لبقائهم على قيد الحياة. 

"أوس" فتى عمره ستة عشر عاماً، يتحدّث بعض الإنكليزية، ويبدو من طريقة حركة يديه أنه مولع بموسيقى الراب. يقول: "نحن لم نفعل شيئاً. كنّا نريد الذهاب لأوروبا. الآن لا أريد شيئاً. أريد العودة لأمي وأخي، اكتفيت مما حصل لنا هنا". وبعد يومين، قرّرت هذه المجموعة السير من جديد نحو مجهول آخر، حملوا زادهم في أكياس بلاستيكية وغابوا في أفق الصحراء، التي على ما يبدو، ورغم قساوتها، إلا أنّها تبقى المكان الوحيد الذي يقيهم  شرّاً أقسى، لاقوه من الإنسان هنا.

أكثر التعريفات تكثيفاً لمفهوم "رهاب الأجانب"، هو الذي أوجزه الكاتب، دونالد مكنايل، باعتباره ربطاً للكراهية العرقية القديمة بالخوف الراهن على السلامة الشخصية. هذا النمط من الرهاب الموجّه ضدّ الغرباء، هو الذي حدّد مواقف السياسيين، منذ أحداث 11 سبتمبر في المراكز الرأسمالية. وبقي يتطوّر ويصبح أكثر بذاءة حتى وصول دونالد ترامب إلى رئاسة أقوى دولة في العالم، مُشكّلاً خطاب "القوادة السياسة" مع ظهور متطرّف فرنسي من أصول عالمثالثية، يحمل نمطاً أكثر عنفاً من العداء للمهاجرين، هو إيريك زيمور. ماكينة الكره العنصري داخل المراكز الرأسمالية تكوّنت من منطلقات عرقية وثقافية مرتبطة بإرث استعماري كرّس موقفاً دونياً نحو الشعوب المستعمَرة. 

عنصرية البلدان الطرفية ليست نزعة تفوّق، وإنّما نزعة تبرّأ ثقافي

الأحداث العنصرية في صفاقس جنوبيّ تونس، التي تعرّض لها أفارقة من جنوب الصحراء، تقدّم نمطاً مركّباً من الكراهية العرقية، ولم تكن بأيّ حال عبارة عن حالة عزلٍ من مجموعة بشريّة تعتبر نفسها جماعة متفوّقة من خلال العرق أو الهوية. "فرسان الرمال"، وُضعوا هنا في مواجهة مع جماعة بشرية، هي أيضاً ضحية لعسف النظم الاستعمارية في المراكز، التي تعرّضت للتمييز والاستهانة في المجتمع المستعمِر، الذي تُشجعه الهوية البيضاء (الأوروبية عموماً) على محاكاة الثقافة البيضاء والتخلّي عن هويته الأصلية. ويُقاس بذلك مستوى التحضّر، لا من منطلق الهوية المحلية ذاتها المُهانة والمحتقرة من المستعمِرين، والتي تتحوّل في ذاتها لأداة احتقار ذاتي، وإنّما من خلال مدى التشبّه بالهوية الغربية المستعمِرة (ربما حداثة بورقيبة تحرّكت في هذا السياق، مضافاً إليها الشكل التسلّطي لفرض هذا الشكل المتأورب من الحداثة). وذات الأمر يحدث، بالنسبة إلى المهاجرين العالمثالثيين الذين يعيشون في المراكز الاستعمارية. 

فما عاناه الأفارقة في تونس، ازدراء مزدوج، ذاتي من جماعة بشرية تُعاني احتقاراً ذاتياً لنفسها والآخر. هي لا ترى نفسها متفوّقة على الآخرين الأفارقة من خلال عقدة تفوّق عرقي وعنصري (باعتبار أنّهم جميعاً أفارقة في نهاية المطاف)، وإنّما تحاول بطريقة ما القول إنها تختلف عنهم، لا من خلال ثقافتها ذاتها، وإنما بمدى اقترابها من الآخر، أي كشعب زُرِع فيه وهم أنه شعب شبه أوروبي!

عنصرية البلدان الطرفية ليست نزعة تفوّق، بل نزعة تبرّؤ ثقافي.