ملف| الصهيونية والتعديل التاريخي (1)
تعتمد الرواية الصهيونية أساسًا على إعادة صياغة تاريخ قيام الكيان الصهيوني وما سبقه من أحداث سياسية واجتماعية، لكي تضفي على "الدولة" القومية اليهودية صفة المشروعية، وتُصوّر حدثَ تأسيسها على أنّه جزء من موجة إنهاء الاستعمار التي تلت تفكّك الإمبراطوريات الاستعمارية.
وفي هذا السياق، تحتفل "إسرائيل" في الرابع عشر من مايو/ أيار كلّ سنة باستقلال مزعوم، فيما يتذكر الشعب الفلسطيني نكبته التي يصرّ العالم على نكرانها والتشكيك في صحتها، بينما تحظى الرواية الصهيونية بشعبية خاصة في الإعلام الأميركي والأوروبي رغم التناقضات الفاضحة التي تتضمنها هذه السردية المُحَرّفة للوقائع. فأين يكمن الخلل المنطقي والمعرفي في الرواية الصهيونية؟ وما الدور الذي يلعبه التعديل التاريخي في تعميم الرواية الصهيونية والترويج لها، خاصة داخل الدوائر التي تشغلها النخبة المثقفة؟
الرواية الصهيونية تشوّه التاريخ لأغراض دعائية
يشير مصطلح "التعديل التاريخي" إلى عملية فكرية يقوم خلالها المفكّر أو المؤرخ بإعادة النظر وتفسير الحقائق والأحداث التاريخية، غالبًا بهدف تقديم منظور مختلف أو تحدّي الروايات المقبولة على نطاق واسع، وتدخل هذه العملية في إطار الجهود العلمية المشروعة لإعادة تقييم الوقائع التاريخية بناءً على أدلة أو تفسيرات مستجدة. ليس هذا المصطلح جدليًا بطبيعته، فهو بكلّ بساطة دراسة للتاريخ وتحليل له، انطلاقًا من المعطيات الجيوسياسية للعصر الراهن. لكن التنقيح التاريخي قد نتج عنه في عدّة سيناريوهات روايات موازية للحقائق التاريخية، تهدف إلى خلق تبريرات وأعذار لشخصيات مثيرة للجدل، وهو الأمر الذي لم يتوقف عنه روّاد التيار اليميني المتطرّف في الغرب رغم الانتقادات اللاذعة التي طاولت كلّ من تزعم هذا التيار. وفيما اعتبر البعض الزعيم النازي، أدولف هتلر "ضحية بيئته"، وبرّر آخرون لموسوليني جرائمه وحكمه الديكتاتوري، عمد مفكرو الصهيونية الأوائل إلى خلق سردية موازية للحقيقة وشيّدوا قومية دينية تمهيدًا لقيام دولة قومية ومستوطنة غربية على أرض فلسطين. ومن رحم كتابات الأدب الصهيوني ولدت فكرة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" التي استخدمت كتبرير لموجات الهجرة اليهودية وحركة الاستيطان التي أحالت "المسألة اليهودية" إلى القارة الآسيوية بعيدًا عن مهدها الأول. لكن التعديل والتحريف اللذين طاولا التاريخ بهدف خدمة السردية الصهيونية باتا يواجهان أزمة مصداقية، ذلك لأنّ الفكر الصهيوني قد شهد تحوّلات عديدة منذ نشأته، ما أدى إلى تضارب أقوال ومواقف وتناقضات صارخة يستخف بها العقل الباحث المفكّر.
الأمثلة الحديثة على التحريف الصهيوني للتاريخ هي أكثر توثيقًا من الأمثلة التي سبقت قيام الكيان
إضافة إلى كلّ هذا، فإنّ الأمثلة الحديثة على التحريف الصهيوني للتاريخ هي أكثر توثيقًا من الأمثلة التي سبقت قيام الكيان، فمن الأمثلة البارزة على ذلك نجد تصريح رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو الذي جاء ضمن خطاب ألقاه خلال المؤتمر الصهيوني العالمي في عام 2015 عن مفتي القدس خلال الحرب العالمية الثانية الحاج أمين الحسيني، حيث زعم نتنياهو أنّ الحسيني هو الذي أثر على أدولف هتلر وألهمه فكرة المحرقة اليهودية لإبادة يهود أوروبا، وهو ادّعاء انتقده المؤرخون والنشطاء السياسيون على نطاق واسع كونه يتنافى مع المعطيات والحقائق التاريخية المحضة، ويهدف إلى شيطنة الفلسطينيين وإلصاق صفة "معاداة السامية" بهم.
لم يكن هذا التصريح سوى رواية واحدة ضمن الروايات المتعدّدة التي يروّج لها الاحتلال، والتي يتم تدريسها في "المدارس العبرية" التي تعتبر الصهيونية جزءًا لا يتجزأ من التكوين الفكري للمستوطن اليهودي في أرض فلسطين المحتلة، فهناك روايات عديدة توجّه اللوم للعالم العربي والإسلامي على ما تعرّض له اليهود من اضطهاد وتُبرئ مهندسي معسكرات الاعتقال الأوروبية والمجازر النازية مما ارتكبوه، لكي تقنع عامة الناس أنّ اضطهاد الكيان الصهيوني للشعب الفلسطيني هو إجراء لا بدّ منه لمناهضة كراهية اليهود.
إنكار النكبة و احتكار الألم
إذا كان زعماء اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة ينكرون حدوث نكبة سنة 1948 عقب تأسيس دولة الإحتلال، فإنّهم يحتفلون بهذا "الحدث العظيم" الذي يزعمون أنّه لم يحدث، بل ويتوّعد بعضهم الشعب الفلسطيني بنكبة ثانية أكبر وأعتى من سابقتها دون أن يحاسبهم على ذلك أحد. يتجاوز بعضهم الإنكار إلى اللوم والتقريع حتى، وهو حال السياسية اليهودية الأميركية، جاكي روسن، عضوة مجلس الشيوخ عن ولاية نيفادا التي زعمت أنّ مصطلح "النكبة" هو لفظ معادٍ للسامية، وأنّ "وصف حدث إنشاء الدولة اليهودية الوحيدة في العالم بالكارثة هو أمر مهين للغاية" على حدّ قولها؛ و بطبيعة الحال لم تواجه هذه السياسية أيّ شكل من التقريع أو الإدانة لأنّ الإهانة لا يمكنها أن تصيب سوى الإنسان الأوروبي مسيحيًا كان أو يهوديًا، ولأنّ قتل 15 ألفاً وتهجير 750 ألف فلسطيني يعدّ بالنسبة للصهاينة من أمثال روسن "شراً لا بد منه"، أو مجرّد أمر عرضي لا يعني الكيان في شيء.
في مقابل هذا الإنكار والتقليل من حجم أثر النكبة على الشعب الفلسطيني، تتمسّك "إسرائيل" بدور الضحية حتى وهي تستمر في خلق أساليب القمع والنهب التي تجابه بها مقاومة الفلسطينيين وكفاحهم المستمر في سبيل استعادة الأرض والوطن بعد أن لجأت إلى استخدام معاناة ضحايا الهولوكوست لتعزيز الاعتراف بحق "الشعب اليهودي" في دولة قومية، وإن جاء ذلك على حساب شعب آخر. الغريب في الأمر أنّ الفلسطيني رفض أن يكون ضحية في أيّة سردية، ولهذا فإنّه لا يزال يقاوم رغم الجهود الخارجية لتصفية القضية الفلسطينية ونزع السلاح عن كلّ من الضفة الغربية وقطاع غزّة حيث لا يزال للكفاح المسلح نبض سليم.
هناك روايات عديدة توّجه اللوم للعالم العربي والإسلامي على ما تعرّض له اليهود من اضطهاد وتُبرّأ مهندسي معسكرات الاعتقال الأوروبية والمجازر النازية مما ارتكبوه
تعترف اليوم أوروبا بالألم اليهودي وتحمي ذاكرتها عبر قوانين تمنع على مواطنيها الإنكار أو التشكيك في الهولوكوست في الوقت الذي تعمد فيه ذاكرتها الانتقائية على تناسي المليون شهيد في الجزائر ووأد ذاكرة فلسطينيي الشتات الذين رمت بهم النكبة في أحضان القارة الأوروبية، وهو ما يدل على أنّ اعتراف الدول الأوروبية بالهولوكوست إقرار صريح باستثنائية "الألم اليهودي" وبعقدة الذنب التي يدفع ثمنها شعب لا علاقة له بجرائم الأنظمة التوتاليتارية في أوروبا. وهنا، تعوّل "إسرائيل" وبشدّة، على هذه العلاقة الطفيلية التي تربطها بالدول التي شهدت صعود النازية وعلى إبقاء الشعور بالذنب والمسؤولية حيّاً في الوعي الجماعي للمجتمعات الأوروبية لكي تتمكن "دولة" الاحتلال من ارتكاب أكبر قدر ممكن من الجرائم في حق الشعب الفلسطيني دون أن يكون لجرائمها عواقب ملموسة.
صراع السرديات الصهيونية فيما بينها
تعتمد الصهيونية اليوم على تحريف التاريخ لأجل الدفاع عن نفسها، إذ أنّ المطالبة الصهيونية بفلسطين تستند إلى أسس هشة تمّ دحضها وتفكيكها من قبل عدد من المفكرين والأكاديميين، أبرزهم إدوارد سعيد وجوزيف مَسْعَد. لهذا السبب لا تخلو تصريحات الشخصيات البارزة في "دولة" الاحتلال من تناقضات منطقية ومحاولات تزييف حقائق تاريخية متعارف عليها، حتى أنّ هذه الممارسة الجدلية قد طالت جذور الحركة الصهيونية وتطاولت على رواية الأب الروحي للصهيونية ثيودور هرتزل، الذي وصف مساعيه لتوطين اليهود في أرض فلسطين بالكولونيالية.
بينما يعدّ الكيان الصهيوني أكبر تجمّع لأتباع الحركة الصهيونية الذين يحقّقون نبوءة هرتزل عبر تواجدهم السياسي في أرض فلسطين، فإنّ الولايات المتحدة الأميركية تُعدّ أيضًا حاضنة لهذه الأيديولوجية المتطرفة وداعمة لها، سواء أكان هذا الدعم يُعزى لتوّغل اللوبي الصهيوني في مراكز صنع القرار الأميركي أو لكون "إسرائيل" موطئ قدم الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وراعية لمساعيها الإمبريالية. وبالرغم من هذا التناغم والتناسق الصهيوأميركي الاستراتيجي، فإنّ لكلّ كيان روايته الخاصة فيما يتعلّق بالحركة الصهيونية وأهدافها، ففي الوقت الذي يزعم صهاينة أميركا ونشطاء اللوبي الراعي لمصالح الاحتلال أنّ الصهيونية حركة قومية يهودية تهدف إلى "تقرير المصير"، يعترف معظم أفراد النخبة الثقافية في "دولة" الاحتلال أنّ الصهيونية حركة استيطانية ذات أهداف توّسعية غير محدّدة ويعرضون بكلّ فخر طموحاتهم في استيطان صحراء سيناء المصرية وأراضي أخرى لدول عربية مجاورة. لهذا فإنّ المزاعم التي يصدح بها الصهاينة الليبراليون في الغرب تتعارض، وبشكل كبير مع الآراء الأكثر شعبية في "دولة" الاحتلال، مما نتج عنه في حالات كثيرة صدامات داخلية حول السردية التي يجب تبنيها لكي لا تصبح صورة الاحتلال أكثر بشاعة مما هي عليه بالفعل.
هكذا يوظّف سياسيو دولة الاحتلال سرديات دينية وأخرى علمانية ويحاولون إقناع الرأي العام بالفكرة ونقيضها؛ تارة يتلبس الصهيوني صفة الضحية المغرّر بها، وتارة يخلق لنفسه صورة الطاغية المتجبّر الذي يستطيع إبادة الشعب الفلسطيني عن بُكرة أبيه مهما استنكر وأدان العالم جرائمه في قطاع غزّة، فيما يخرج ممثلو الحركة الصهيونية في أميركا للتباكي على أحداث السابع من أكتوبر واتهام أنصار القضية الفلسطينية بمعاداة السامية بينما هم ينادون بالإبادة الجماعية والتطهير العرقي في حق الشعب الفلسطيني.