ملف| إسرائيل وفلسطين: جريمة الاحتلال أولاً وأخيراً (21)

17 يناير 2024
+ الخط -

لم يشأ المنتظم الدولي والهيئات الأممية المتشكلة بعد الحرب العالمية الثانية تصنيف الاحتلال كأصلٍ لكلّ الجرائم، وكسببٍ جوهري لها، لأنّ المنتصرين في هذه الحرب الكونية الثانية أرادوا ذلك، سيما وأنّ نيّة الاستمرار في إخضاع بلدان عديدة من القارات الثلاث للاستعمار والاحتلال، ظلّت واردة في حُسبانهم وأجندتهم، آنذاك وفي المستقبل أيضاً.

"التاريخ يكتبه المنتصرون"، هكذا تمّ تشييد مؤسسات الأمم المتحدة على المقاس، بما يخدم مصالح الدول والقوى الغربية أو الأطلسية، التي اعتبرتْ نفسها منتصرة. ذلك أنّ محكمة العدل الدولية، والجنايات الدولية، ما كان لهما أن تريا النور مباشرة بعد انتهاء الحرب الكونية الثانية، لولا مصالح الغرب الاستعماري فيهما، وخصوصاً على ضوء ما صار معروفاً ومتداولاً تحت عنوان الهولوكوست، حيث مصالح الصهيونية العالمية.

مفهوم الاحتلال أو الاستعمار الذي لم تُنشأ له المؤسسة أو الهيئة الدولية المناسبة، ولم يتم تجريمه بقوة القوانين والمواثيق الدولية كما ينبغي، منذ الحرب العالمية الثانية حتى الآن، يقابله مفهوم المقاومة باعتباره الرد المناسب والمشروع على كلّ احتلال مؤقت أو دائم، كيفما كان نوعه في الزمان والمكان. لذلك، سيتم الاعتراف بالحق المشروع في مقاومة الاحتلال والاستعمار بكلّ الوسائل المُتاحة، منذ خمسينيات القرن الماضي، في سياق موجة حركات التحرّر الوطني التي اجتاحت في إبانه مختلف القارات الثلاث الخاضعة للاستعمار الغربي. فهل يمكن القول، والحالة هذه، إنّ الاحتلال أو الاستعمار يبقى (في البدء والمنتهى) هو أصل كلّ الجرائم التي تتصدّى للقسط الكبير منها محكمة العدل الدولية والجنايات الدولية، من جرائم الحرب المختلفة والتهجير القسري إلى جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وغيره؟

بل، أليست الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتهجير القسري وتعريض المدنيين للجوع والبرد والتشريد الجماعي وتدمير عناصر وسبل الحياة، مرحلة متطوّرة قصوى في الهمجية والبشاعة والنازية والفاشية، للاحتلال، أو الاستعمار، أو الإمبريالية عموماً؟

ليس أمام العالم كله، والبشرية كلها، سوى السير الحثيث نحو عالمٍ متعدد الأقطاب، يلوحُ في الأفق

إنّ الاحتلال الصهيوني لفلسطين، ولبعض الأراضي العربية (الجولان السوري ومزارع شبعا اللبنانية)، فريد من نوعه لأنه احتلال أو استعمار إحلالي استيطاني، ومقاومة هذا النوع من الاحتلال أو الاستعمار، فريدة من نوعها هي الأخرى، وما يجري في غزّة وفي الضفة وغيرهما، يعتبر شكلاً من أشكال هذه المقاومة الفريدة من نوعها، في العصر الحديث كلّه.

 لذلك، وبكلّ المعايير الأخلاقية والمقاييس العقلية، تشكل مقاومة الفصائل الفلسطينية (حماس وغيرها) لاحتلالٍ دام أكثر من 75 سنة، مقاومةً مشروعة وواجبة، منظوراً إليها كحركة تحرير وتحرّر وطني. ومهما حاول الاحتلال الصهيوني، بمعية صُناعه الغربيين وأميركا، إخفاء جوهره الاستعماري والهمجي، فإنّ هذه الحقيقة ستبقى وتظل ساطعةً وموصولةً بالحق المشروع في المقاومة بكلّ الطرق والوسائل من أجل إنهاء هذا الاحتلال أو الاستعمار.

 وفي غياب قانون دولي صريحٍ يُجرّمُ الاحتلال والاستعمار، يبقى حق الدفاع عن النفس من حق الخاضع للاحتلال أو الاستعمار، لا من حق المُحتل أو كيان الاحتلال، كما تحاول إسرائيل والغرب الصانع والحامي لها، إيهام العالم ورأيه العام، عبر أشكال مختلفة من التسلّط والكذب والتضليل والتحريف والنفاق.

 وفي هذا السياق، يصير الجدل قائماً ومرتبطاً بالضمير الدولي، سيما وأنّ ما يمكن نعته بالقيم والأخلاقيات الإنسانية مثلاً، قد صارت تبدو كما لو كانت مجرّد عبارات بلا روح أو معنىً، أمام هول الكذب والتضليل والتحريف والنفاق الذي مَسّ ويمُسّ مفاهيم وقيماً عديدة من قبيل الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان، حيث وُضِعتْ عليها علامات استفهام كثيرة؟

عموماً، لقد سقطت حتى الآن أقنعة كثيرة، في الوقت الذي يتجه الكيان الصهيوني إلى إفناء شعبٍ بكامله، شعب صامد، متشبّث بحقوقه وأرضه، وبمقدساته ومقاومته للاحتلال أو الاستعمار. ومما لا شك فيه، أنّ إسرائيل وداعميها والمتواطئين معها (أميركا والغرب الأطلسي وبعض المرجعيات المحلية)، يواصلون تضليل الرأي العام الدولي ومنظومته الأممية والضمير العالمي، وذلك بالدعوة إلى معالجة الأعراض والنتائج بدل معالجة الأسباب والمسبّبات. 

ليس أمام الشعب الفلسطيني سوى الاستمرار في المقاومة على صعيد كلّ الجبهات

 إنّ الاحتلال أو الاستعمار هو السبب الذي ينبغي أن يُعالج، وإجراءات الاحتلال أو الاستعمار من عدوان وبطش وتهجير وتشريد هي المسبّبات التي ينبغي أن تطاولها المعالجة في المشكلة المطروحة، والموصولة باحتلال إسرائيل لفلسطين وللأراضي العربية. وهنا، يُطرح السؤال: إلى أين تسير الأمور؟ وفي أيّ اتجاهٍ تتطوّر الأشياء؟ بخصوص الحرب الجارية في غزّة، وفي كلّ فلسطين المحتلة؟

 تنحو الأمور طريق حرب التحرير الشعبية الطويلة والشاملة، منظوراً إلى ثبات المقاومة ومحورها، وإلى صمود الشعب الفلسطيني في غزّة وغيرها، كحلقة متطورة في مسلسل التحرير والتحرّر الوطني الشامل والكامل. بل إنّ وقف هذه الحرب، سواء بضغطٍ من الرأي العام العالمي أو بقرار من المنتظم الدولي أو من محكمة العدل الدولية، أو من طرف الكيان الصهيوني نفسه اعترافاً بهزيمته، معناه ترسيخ القضية الفلسطينية نقطةً ساطعةً على رأس جدول أعمال العالم كلّه، وفسح المجال للجدل السياسي وللتفاوض على قاعدة حلّ الدولتين.

 وفي كلّ الأحوال، ليس أمام الشعب الفلسطيني سوى الاستمرار في المقاومة على صعيد كلّ الجبهات، وفي الصبر والصمود والكفاح، وفي السداد على طريق حرب التحرير الشعبية، بكلّ الوسائل المتاحة في الزمان والمكان، وليس أمام العالم كله، والبشرية كلها، سوى السير الحثيث نحو عالمٍ متعدد الأقطاب، يلوحُ في الأفق.

مدونات
مدونات

مدونات العربي الجديد

مدونات العربي الجديد
النصّ مشاركة في ملف| غزّة لحظة عالمية كاشفة، شارك معنا: www.alaraby.co.uk/blogsterms
محمد الفرسيوي
محمد الفرسيوي
محمد الفرسيوي
كاتب من المغرب.
محمد الفرسيوي