ملف: أشكال من العنصرية عايشتها في لبنان (18)
أحمد الصباهي
أبدأ مقالي بكلمات مأثورة عن طبيب أفريقي المولد، جزائري الهوى، إنه صاحب كتاب "لأجل الثورة الأفريقية"، الثائر فرانز فانون. هي كلمات لفتتني لأتأمل فيها بعمق، ممّن عايش العنصرية في مرحلة الاستعمار، وثار عليه، وهو القائل: "يبدو بشكل أكثر تحديداً أنه يمكن إعادة كلّ المسائل التي يطرحها الإنسان حول موضوع الإنسان إلى السؤال الآتي: ألم أساهم في خفض قيمة الواقع الإنساني جرّاء أفعال قمت بها، أو امتنعت عنها؟"، يبدو أنّ فانون يساوي بين الفعل والصمت عن العنصرية، فهما سيان بنظره.
عندما قرّرت المشاركة في ملف "ثقافة الكراهية عربياً.. ماذا عن عنصريتنا"، الذي عرضه "العربي الجديد"، سألت نفسي: ماذا سأكتب كلاجئ فلسطيني في لبنان؟ ومن أين أبدأ؟ أمن الطفولة، أم من المدرسة، أم من المجتمع، أم من مؤسسات الدولة، أم من الجامعة، أم وصولاً إلى عملي الحالي كصحافي فلسطيني في لبنان؟
في كل مرحلة ثمّة تجربة، وقبل أن أبدأ، لا بد أن أشير إلى أنّ اللبناني نفسه يعاني من عنصرية أخيه اللبناني، وهي قصة لها أبعاد تاريخية دينية وسياسية.
تصنيف لبنان بين الدول
من المضحك المبكي، أنّنا في الألفية الثالثة، وبالرغم من كلّ مراحل التطوّر، وبعد مرور أكثر من 75 عاماً على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حيث نصّت الأمم المتحدة في موقعها أنه "لا تزال مكافحة العنصرية والتمييز العنصري الضرورة الملحة في كلّ يوم"، إلا أنّ الأمم المتحدة نفسها مدانة، وتخالف هذا التحدّي عبر العقوبات التي يفرضها مجلس الأمن تحت البند السابع على الدول الضعيفة، مقابل العجز غير المبرّر أمام الكيان الإسرائيلي العنصري تجاه الفلسطينيين.
وبالعودة إلى لبنان، وبالرغم من مرور سنوات طويلة من توقيعه على الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري (1971)، فإنّ العنصرية زاد منسوبها في السنوات الأخيرة، وهو ما أظهرته أحدث الإحصاءات، ففي موقع "مشروع العدالة الدولية"، الرائد في العالم للبيانات الأصلية والمستقلة عن سيادة القانون للدول، صُنّف لبنان تحت عنوان "الحقوق الأساسية" والمعنية بـ"إذا كان الأفراد في مأمن من التمييز"، بدرجة متدنية جداً، فلقد احتل المرتبة 133 من أصل 140 دولة، في العام 2022.
هناك من يجهل أنّ لبنان وفلسطين بلدان متجاوران، فلماذا يجب أن يكون الفلسطيني أسمر داكناً، واللبناني أبيض؟
وفي سنوات سابقة من العام 2015، صنّف موقع "إنسايدر مونكي" الأميركي، لبنان في المرتبة الثانية بعد الهند عالمياً في الدول الأكثر عنصرية، وذلك بعد استطلاعين للرأي أجرتهما "واشنطن بوست"، على عينة من 85 ألف شخص.
أشكال متنوعة من العنصرية
سأروي جزءاً من حكايتي مع العنصرية كلاجئ فلسطيني في لبنان محروم من أبسط حقوقه المدنية، وليس لي شاهد منها وعليها سوى نفسي والذكريات المزعجة، بل الأليمة. وتعود التجربة الأولى إلى مرحلة الطفولة في العام 1982، في منطقة "سوق الغرب" من قضاء عاليه في محافظة جبل لبنان. وما أذكره هو أنّ والدتي قالت لوالدي، وقد بدأ الاجتياح الإسرائيلي للبنان، ماذا سنفعل إن دخلت الكتائب اللبنانية إلى سوق الغرب، واقتحموا المنزل، وأنت فلسطيني؟ وتساءلت حينها: ماذا يعني فلسطيني؟ وماذا يعني الكتائب اللبنانية؟ ولماذا يكرهوننا؟
غادرنا سوق "الغرب" تحت القصف والاشتباكات في تلك الفترة من تاريخ لبنان (الحرب الأهلية)، ذلك أنّ اليمين المسيحي آنذاك، ممثلاً بحزب الكتائب اللبنانية وغيره من الأحزاب المسيحية، تحالف مع قوات الاحتلال الإسرائيلي، وكان في مواجهة مسلحة في تلك المنطقة مع الدروز. ولقد دفع الفلسطينيون في هذه الحرب أثماناً كبيرة، ذلك أنّ القتل كان يجري على بطاقات الهوية، ولقد طلب والدي منّا جميعاً قبل مغادرة المنزل، أنه إذا سُئلنا في الطريق من أيّ عائلة أنتم، أن نقول من عائلة "حرب"، لأن هذا يمكن أن يُجنبنا القتل.
من الأمور المزعجة التي واجهتها أيضاً، ما له علاقة بلون البشرة! كان يُقال لي، "إنك لا تشبه الفلسطينيين!". وعندما أسأل: "لماذا؟". يقولون لي: "الفلسطيني أسمر، وشعره مجعد، وبشرته سمراء داكنة"، فأتعجب ما العيب في كونك أسمر؟ وما هو المميّز في كونك أبيض؟ هل هناك من يجهل أنّ لبنان وفلسطين بلدان متجاوران، فلماذا يجب أن يكون الفلسطيني أسمر داكناً، واللبناني أبيض؟
تحت ذريعة "المعاملة بالمثل" يحرم الفلسطيني من مزاولة سبعين مهنة، وأنّى لنا كفلسطينيين وبلدنا محتل، أن نعامل اللبناني بالمثل؟!
في الجامعة اللبنانية التابعة للدولة، في كلية العلوم السياسية والإدارية، ساوت بيني وبين اللبناني بالأقساط، إلا أنّه لا يحق لي التأمين الصحي كالطالب اللبناني. في تلك الفترة، شهدت حادثة عندما كنت طالباً في الدراسات العليا في العام 2016، في ذروة الصراع في سورية، حيث بدأ الحديث في إحدى المحاضرات عن أعداد السوريين الكبيرة في لبنان، وكان للفلسطيني نصيب منه أيضاً، وبدأت حفلة من الشحناء والبغضاء التي اشترك فيها البعض، وصمت آخرون. وفي ذروة هذين الهرج والمرج، قال أحدهم (رشح نفسه لاحقاً كرئيس بلدية وفاز): "سنهجّر بالقوة السوريين والفلسطينيين إلى سورية"، ولوّح بيده مشمئزاً، لتقول أخرى: "سنترك لهم البلد ونرحل لقد أصبحت البلاد للأجانب". آثرت الصمت اشمئزازاً بدوري، بالرغم من أنّ البعض كان ينتظر منّي ردّاً، وسألت نفسي: أليس من المفترض أن يُمنع هكذا كلام في المحاضرات، خصوصاً أنه كان يتواجد معنا طلاب سوريون وكنت الفلسطيني الوحيد؟
في لبنان، شئت أم أبيت، تكتشف حجم الإجحاف والظلم بالقوانين اللبنانية، فتحت ذريعة "المعاملة بالمثل" يحرم الفلسطيني من مزاولة سبعين مهنة، وأنّى لنا كفلسطينيين وبلدنا محتل، أن نعامل اللبناني بالمثل؟ لقد شعرت بكارثة هذه القوانين، عندما اتخذ وزير العمل آنذاك، كميل أبو سليمان، في العام 2019 قراراً بإجبار الفلسطيني على الحصول على رخصة عمل قبل مزاولة أي مهنة، وبدأت الوزارة تلاحق الفلسطينيين في مؤسساتهم، وكنت معرّضاً للتوقّف عن عملي كمذيع أخبار، فلا يحق لي الحصول على رخصة عمل كصحافي أو إعلامي، لا من وزارة العمل، ولا الإعلام، ولا من نقابة الصحافيين، بالرغم من وضعي الخاص كلاجئ في لبنان منذ 75 عاماً.
للأسف هذا النهج مستمر، وآخر فصوله ما صدحت به أخيراً الصحافية نضال الأحمدية، في أحد البرامج، حيث اعتبر كلامها عنصرياً، وأثار انتقادات حادة في وسائل التواصل الاجتماعي، عندما عبّرت عن أنها لا تستطيع العيش مع السوريين، فالثقافات مختلفة، والسوري في لبنان لا يعرف ما هو "الشوكولامو" وبدأ يتعلم كلمة "بونجور" التي يجهلها..