مقتطفات من حوار مفقود مع فهمي هويدي (3/3)

25 اغسطس 2021
+ الخط -

ـ المعركة التي سبقت حظر مقالك الأخير كانت على جبهة أخرى هي جبهة قطاعات من الإسلاميين أو بالتحديد دراويش التدين منهم كما وصفتهم في مقالك، والذين خضت معهم معركة سابقة في كتابك (التدين المنقوص)، هل فاجأتك ردود الفعل الغاضبة منهم؟

هذا صحيح، ردود الفعل كانت عنيفة وقوية أكثر مما توقعت، لم أكن أتوقع أن يكون الدراويش بهذا الحجم والانتشار، غضب كثيرون مما كتبت واتصل كثيرون معاتبين ومستنكرين ومهاجمين، لكني كما قلت كنت قد خضت هذه المعركة منذ سنوات طويلة ضد التدين المنقوص واهتممت كثيرا بأزمة الوعي الديني في عدة كتب، ودعوت إلى ضرورة أن يسود على الساحة التدين الإحيائي والتدين البنائي في مواجهة الدروشة، ومواجهة من يريدون أن يتحول الإسلام إلى مجموعة طقوس وتقاليد.

ـ إذن يا أستاذ فهمي، العلمانيون يعتبرونك كاتبا تغازل المتطرفين، والمتطرفون يعتبرونك صاحب أفكار إن لم تكن هدامة فهي غير مريحة ومرفوضة، والحكومة تعتبرك معارضا والمعارضة تتعامل معك بشكل انتقائي، ألا تشعر أنك تفتقد إلى جمهور محدد يتعاطف معك؟

لا أدري من الذي قال "لم يجعل لي الحق صديقا"، هذه المشاعر التي تفرضها الصورة التي رسمتها هي جزء من الضريبة التي يجب أن يدفعها من يختار أن يكون كاتبا مستقلا، لكن ثقتي في القراء أكبر بكثير من ثقتي في النخب التي تتحدث عنها، كل هؤلاء تشكلوا فعلا، المتطرفون تشكلوا سواء كانوا متطرفين إسلاميين أو علمانيين، وفي الحكومة في ناس فاهمينّي صح وفي ناس بيقرأوا تقارير أمنية عني بس، وكل هؤلاء لا أراهن عليهم.

أنا أراهن على أغلبية صامتة في المجتمع لم يتح لها أن تعبر بشكل حقيقي عن أشواقها وأحلامها، أنا لو بصّيت للشرائح التي ذكرتها سأصاب باليأس، بمناسبة تلال الأكاذيب التي تحدثت عنها، عندما أقرأ تلال الخطابات التي تصلني أشعر بالراحة وأنام وأنا مستريح الضمير لأني لا أنفخ في قربة مقطوعة، شوف أنا دائما أراهن على التراكم، تراكم المشاعر والأفكار، والكاتب مهمته باستمرار أن يكون معبرا عن ضمير مجتمعه، لست مسئولا عن النتائج، أختار فقط الموقف الصحيح ومراهنتي على القارئ والتاريخ.

ـ ألا تشعر أحيانا أن الكاتب يكسب أكثر أو يستمر أكثر عندما يكون هناك أحد يحميه، سلطة ما أو سند قوي ما يعينه على الاستمرار؟

غير صحيح، ليس هناك كاتب يبقى لأن هناك سلطة تحميه، عمره دائما سيكون من عمر هذه السلطة التي تحميه، الكاتب سنده الحقيقي هو موقفه، والرصيد الثمين لأي كاتب هو سجله الشريف، وهو الذي يضمن له مكانا داخل التاريخ أو خارجه، هناك كتاب كثيرون لا يزال وزنهم كبيرا في المجتمع بينما هم لا يتلقون أي دعم من أحد سوى القراء.

أنا أدافع عن الأقباط بقدر ما أنا ضد التطرف الموجود لدى بعض المسلمين، ولا شك أنه يوجد بين الأقباط من له أفكار متطرفة أنا ضدها، ولي مقال لم ينشر في مصر به هذه الفكرة

ـ هذا الانحياز الذي تقول إنك حافظت عليه طول مشوارك المهني، كيف تشكّل لديك منذ البداية؟

هذا سؤال صعب في الحقيقة، ربما لأنني تربيت في بيئة لديها مجموعة من القيم سواء في البيت الذي نشأت فيه أو البيئة الصحفية التي عملت فيها، أنا اشتغلت مع الأستاذ محمد حسنين هيكل والأستاذ أحمد بهاء الدين، والاثنان من الناس اللي عمرهم ما كان رصيدهم مستمد من السلطة، بل من مجموعة قيم هي الاعتزاز بالمهنة والكرامة والاستعداد لدفع الثمن، هذه البيئة تعتبر القيم المهنية والإنسانية شيئا عزيزا يستمد منه المرء رصيده، والحمد لله ربنا ما أحوجنيش يوما لأن أكون مستندا إلى سلطة، ولم يحدث خلال الـ 41 سنة الماضية أن طلبت شيئا من سلطة أو رئيس تحرير، لم أطلب أبدا شيئا شخصيا، كنت مستغني ليس ثراء ولكن تعففا، أنا قعدت سنتين في السجن في عهد عبد الناصر، ليس لأني شخص خطير، بل لأن والدي كان من مؤسسي الإخوان، فسجنوني وكان عندي 16 سنة وقتها، وأعتقد أنه لا يوجد ما هو أسوأ من السجن إلا الموت، ورغم ذلك لم يكن عندي استعداد أبدا أن أفرط في أي قيمة.

ـ برغم أن السجن كان يمكن أن يؤثر عليك تأثيرا عكسيا؟

طبعا، طبعا كان يمكن أن أنكسر، صحيح إني اتعذبت تعذيب بسيط، يعني ما كنتش بطل، ولكني رغم ده دافعت بعد ذلك عما هو إيجابي في التجربة الناصرية وآمنت أن عبد الناصر كان قيمة، برغم أن أسرتي دفعت ثمنا باهظا في عهده، كل هذا تعلمته من النشأة وسط أناس شرفاء.

ـ ألا تشعر أن هناك التباسا قائما بينك وبين القراء الأقباط، أذكر أنني تلقيت رسالة من قارئ قبطي يهاجمنا في الصحيفة لأننا اخترناك ضمن أحسن وأهم 10 كتاب في مصر، ما تعليقك؟

بالطبع أدرك هذا، لكن أقول لك الكاتب لا يستطيع أن يكذب على أحد، لأن ما يكتبه موجود ويمكن الرجوع إليه، أنا أعتقد أن شعار (مواطنون لا ذميون) الذي جرى على الألسنة، كنت أول كاتب يطرحه في العلن وكتبت فيه كتابا كاملا لم يعجب الكثير من المتشددين والغلاة، لأنني قلت في كتابي يا إخواننا تعالوا نتجاوز فكرة أهل الذمة، وبعد سنوات من ذلك الكتاب كتبت مقالا ستستغرب حين تعرف أن (الأهرام) منع نشره، وكان عنوانه (لننتخب الأقباط)، وستجده في كتاب (المقالات المحظورة) وقد كتبته ردا على عبارة من انتخب كافرا فهو كافر والتي أطلقها أحد المرشحين في الانتخابات البرلمانية الماضية لتنفير الناس من حول منافسه القبطي.

أنا أدافع عن الأقباط بقدر ما أنا ضد التطرف الموجود لدى بعض المسلمين، ولا شك أنه يوجد بين الأقباط من له أفكار متطرفة أنا ضدها، ولي مقال لم ينشر في مصر به هذه الفكرة، وقد دعوت فيه عقلاء المسلمين وعقلاء الأقباط لأن يتحدوا سويا لمواجهة مشاكل مصر. على أي حال هناك التباس موجود عند شرائح معينة لا أخفي اختلافي معها.

ـ أحيانا تكتب مقالات يمكن من تحليلها استنتاج أنك تقدم أسبابا للمتطرفين لكي يشنوا حربا على كاتب ما أو فكرة ما، مثلا موقفك من الدكتور نصر حامد أبو زيد الذي جعل البعض يصفك بأنك قتلت الرجل ومشيت في جنازته، أذكر هنا تعبيرا للكاتب الأستاذ إبراهيم عيسى عندما وصف في إحدى مقالاته بأنك تحمل مسدسا كاتما للصوت؟

شوف، أي كلام لو أردت أن تستخرج منه ما يلقى هواك ستجده، أنا مثلا كنت ضد كتب نصر حامد أبو زيد ولكني كنت أيضا ضد محاكمته، والأمر هنا ليس فيه أبيض وأسود، أنا ضد أفكاره وضد محاكمته، وهذا كلام قلته في حينها ولم يكن خافيا، عموما أعتقد أن إبراهيم عيسى مثلا له رأي مختلف في الآن، وربما كان رأيه وقتها سببه حالة التوتر والاستقطاب. مع الأسف عشنا فترة ننتمي إلى قبائل سياسية، وكل منا يدافع عن القبيلة أكثر من دفاعه عن الوطن، وهذا من الأشياء الخطيرة أن تحدث قسمة لصف المثقفين بين إسلاميين وعلمانيين، وبالتالي كل منهم يهاجم الآخر ويقف ضده، هذه قسمة فاسدة وضارة، القسمة الحقيقية يجب أن تكون بين وطنيين وغير وطنيين، وفي الصف الوطني هناك تمايزات في المواقف والآراء والأفكار.

للأسف حالة الاستقطاب هذه حكمت الكثيرين وجعلت المشترك في الهم الوطني يفوتنا كثيرا، أنا عندما أكتب عن التطرف موافق على أن أقول إن التطرف ابن ستين كذا ولكن تعالوا نفهم من أين جاء التطرف، لا يصح أن يتحول الكاتب إلى قاضي ومدعي عام ويتخلى عن موقفه في فهم الظواهر، ولا أدري لماذا اتهموني عندما قلت هذا بأنني أدافع عن التطرف. هناك حدة استقطاب موجودة وغيبة لقنوات التفاهم وعدم إدراك القوى المتصارعة للمشترك الذي يجمعها، مع أن هناك مشتركا بين المعتدلين الإسلاميين والمعتدلين العلمانيين أكثر بكثير من المشترك الذي يجمع المعتدلين الإسلاميين بالمتطرفين الإسلاميين، وأعتقد أنني كنت من أوائل من كتبوا عن مشكلة التطرف العلماني والتطرف الإسلامي، ولو رفضنا كلنا هذا التطرف سنكتشف أن هناك مشتركا بيننا أكبر بكثير مما يتوهم الناس.

...

نشرت هذا الجزء من حواري مع الكاتب الكبير فهمي هويدي في صحيفة (الجيل) بتاريخ 28 فبراير 1999، ومع الأسف لم أجد في كل ما أحتفظ به من أرشيف الجزء الثاني من الحوار الذي نشر في الأسبوع التالي، لكنني أذكر أنه كان أكثر سخونة وتطرق إلى العديد من الاتهامات التي توجه للأستاذ فهمي هويدي من خصومه، وقد بحثت عنه في العديد من الأرشيفات الصحفية فلم أجده، ولم أجد الصحيفة نفسها متاحة في دار الكتب المصرية على كثرة ما تضمه من صحف ومجلات، ومن يدري ربما وجدته لدى بعض من يقرأون هذه السطور، ليرسلوه لي فأتيح نشر بقيته للمهتمين بما كانت عليه الأمور في مصر وقت إجرائه، وكيف صارت إليه الآن.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.