مغص وغازات في ذكرى الحركة التصحيحية

20 فبراير 2020
+ الخط -
الحكاية التي رواها أبو زاهر عن الصحفي "إبراهيم" الذي التقاه في سجن صيدنايا أعجبت الحاضرين في سهرة الإمتاع والمؤانسة، وأرادوا أن يعرفوا أشياءً أخرى عن ذلك الصحفي الذي أودت به شجاعتُه إلى الاعتقال. وأنهى أبو زاهر حديثه بالقول: إبراهيم صحفي شجاع بكل معنى الكلمة.

ضحك الأستاذ كمال وقال:
- الغريب في الأمر إنه أبو زاهر بيعتبر هادا الصحفي شجاع. أنا سمعت الحكاية من أولها لآخرها، ما لقيت فيها شجاعة أبداً. أخي هادا الصحفي، بحسب ما سمعنا من أبو زاهر، كان يتضايق من الصحفيين الانتهازيين الموظفين في الصحف السورية، وبيوصفهم وصف دقيق وبيقول إنهم بيمدحوا حافييظ الأسد بأشعار وكتابات رديئة، وحافيييظ وزلمُه ما عندهم مانع تكون الأشعار ركيكة، اللي بيهمهم هوي المديح بحد ذاته. وحتى يغطوا هدول الصحفيين المداحين على سخفهم وضحالتهم بيزاودوا على غيرهم من جهة "الوطنية". وعلى فكرة "المزاودة بالوطنية" عبارة عن عملية معقدة جداً.

قال أبو جهاد: شلون يعني معقدة؟

قال كمال: بيقولوا إنه صحيح سورية دولة ذات موارد جيدة، وفيها شعب شغيل ومنتج، والشام شامة على خد الزمن، والله حاميها، ولكن إذا بدكم الصحيح حافيييظ هو باني سورية، وهوي حاميها، لأنه هوي اللي فتح المدارس والجوامع والمصانع وشق الطرق و..

قاطعه أبو ماهر قائلاً: طول بالك يا أستاذ كمال. أخي طالما سورية فيها شعب شغيل ومؤسسات ودوائر حكومية إلها ميزانيات، وهي المؤسسات هيّ اللي بتبني، وبتصلّح، وبتشق طرقات، حافييظ أيش دخله بالموضوع؟


قال كمال: برأيي أنا ورأيك إنته ما إلُه دخل. لكن هاي النغمة بلشت وزارة الإعلام السورية تعزف عليها من بداية التمانينات، وأفهمت العاملين التابعين إلها (بالحسنى أو بالصرماية) إنه كل الأشياء اللي بتنعمل في سورية، حتى المراحيض العامة، لازم تقولوا إنه تم إنشاؤها وتشييدها بتوجيهات كريمة من الرئيس حافييظ الأسد! وظهرت بوقتها اصطلاحات إعلامية جديدة متل: توجيهات كريمة من القائد، عطاءات القائد، القائد المعطاء، إلى آخره.. المهم، أنا كنت عم إحكي لكم عن المزاودين والإعلام السوري. هدول بيقولوا إنه حافييظ هوي اللي فَتَح المدارس، وبَلَّط الأرصفة، وسَلَّك المزلقانات، وعَمَّر المساجد والكنايس والحسينيات حتى يصلي الشعب، وأنجز التوازن الاستراتيجي مع العدو الصهيوني، وليل نهار عم يفكر بتحرير الجولان وفلسطين واللواء، وكلما التقى برئيس دولة عربية مجاورة بيعرض عليه فكرة الوحدة العربية الاندماجية، وعم يحارب الإمبريالية والصهيونية والرجعية.. يعني، بالمختصر، هو اللي حمى القومية العربية، وأسس (المواطنة) السورية الصحيحة، فإذا كنت إنته صحفي (وطني)، متلما عم تدّعي، لازم تمدح حافظ، وإلا بتكون مشبوه!

قال أبو محمد: هلق إنتوا ضيعتونا. أبو زاهر قال إنه الصحفي إبراهيم شجاع، لأنه ما رضي يمدح حافظ. وابراهيم بيقول موشجاع. أخي احكوا لنا كيف حبسوه وفضت يا عرب.

قال الأستاذ كمال: الشجاعة يا عمي أبو محمد فعل. إقدام. هجوم. كر وفر. لكن إذا واحد شاف ناس عم يعملوا شغلات دنيئة وسكت، بدي إفهم وين "الشجاعة" في الموضوع؟ يعني برأيكم صار السكوت شجاعة؟

قال أبو زاهر: الأستاذ كمال أكتر واحد فينا بيعرف إنه الموقف اللي اتخذه إبراهيم كان عبارة عن شجاعة بينحسد عليها. وراح إشرح لكم الأسباب. أنا سألت إبراهيم إنه أيش هو السبب المباشر اللي خلاهم يعتقلوه ويبعتوه ع سجن صيدنايا.. وحكى لي القصة بالتفصيل.

قال أبو محمد: عال عال. هادا هوي الشي اللي عم ننتظره منك.

قال أبو زاهر: في بدايات حكم حافييظ الأسد كانوا يتركوا كل واحد من الصحفيين على حريته.. وصحيح إنه المداحين كانوا يحصلوا مكاسب مادية ومناصب إدارية، بس اللي بيلجأ للصمت ما كان حدا يضايقُه أو يزعجُه، لكن مع بداية التمانينات صاروا يعتبروا مديح حافييظ واجب (وطني وقومي) مفروض عَ الجميع، واللي ما بيمدح لازم يتعرض للمساءلة والمؤاخذة.. أول سؤال بيتوجه إله هوي التالي: كيف بتشوف المؤامرات الاستعمارية والصهيونية عم تحاصر سورية وبتحاول إضعافها نكاية بالبطل القومي الوطني حافييظ الأسد وما بتهب من تلقاء نفسك وبتحكي كلمتين حلوين بحق هالقائد؟ إنته عم تثبت لنا إنك إنسان سلبي، معادي للمرحلة الحرجة من حياة أمتنا العربية، وللخط النضالي، حاقد..

قال أبو محمد: والله هاي محنة.

قال أبو زاهر: التطورات اللاحقة في آليات عمل الصحافة، بحسب ما حكى لي إبراهيم، كانت لئيمة جداً. صار المدير العام في الجريدة يبعت رسالة للأقسام، قبل أسبوعين على الأقل من حلول المناسبة اللي بيسموها قومية، ورؤساء الأقسام بيجتمعوا مع الصحفيين وبيبلغوهم بمضمون رسالة المدير، وملخصها إنه كلياتنا كإعلاميين لازم نتصدى للمؤامرة، والتصدي في إلُه طريقة مكفولة ومجربة ووحيدة، وهيي مديح حافييظ بقصة أو مقالة أو قصيدة. واللي صار مع إبراهيم إنه بعدما صار الاجتماع بيومين قدم إجازة إدارية، رئيس القسم ضحك وقال له: غريب أمرك يا أبو البر، ما بتعرف إنه الإجازات بهالفترة ممنوعة؟

وهادا رئيس القسم رجل آدمي وبيحب المزح، فضحك إبراهيم وهمس له: معك حق. يجب تأجيل الإجازات الإدارية إلى ما بعد إحباط المؤامرة! بعدين ابراهيم طلب إحالة على طبيب الجريدة باعتبار إنه عم يعاني من مرض طارئ. وبالفعل، وافق رئيس القسم وأمين التحرير على إحالته ع الطبيب. وكان هادا هوي السبب اللي خلاه يوصل لسجن صيدنايا.

استغرب الحاضرون هذه القفلة. وقال أبو محمد: إنته عم تقول وافقوا له ع الإحالة الطبية. بقى ليش حتى يسجنوه؟

قال أبو زاهر: بالعادة رؤساء الأقسام بيوافقوا على الطلبات اللي من هالنوع من دون ما يقروا الشروحات المكتوبة ويدققوا فيها، لإنهم بيعتبروها روتينية. لكن عناصر المفرزة الأمنية الموجودين في الجريدة لما عرفوا إنه الصحفي إبراهيم عامل إجازة مرضية، بهادا التوقيت الغريب، فهموا القصة، لإنهم بيعرفوا إنه صحته جيدة جداً، وفي أوقات فراغه بيروح على نادي رياضي بيعمل تمارين حديد ورفع أثقال، وبنفس الوقت هوي طوال وجوده في الجريدة ما كتب أي كلمة مديح لحافييظ.. منشان هيك راح واحد منهم على قسم الشؤون الإدارية، وصَوَّرْ طلب الإحالة الطبية، وجاب الصورة ع المفرزة، ولما دققوا فيها وجدوا إنه مسجل في حقل الأعراض المرضية ما يلي:

أعاني من مغص شديد، وغازات، وفي الليل تصدر عني أصوات أنا نفسي أجفل منها!

فاعتبروا هالكتابة سخرية من المناسبة القومية العظيمة، ذكرى الحركة التصحيحية ومن القائد العظيم!
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...