معارك خالية من المعنى
دخلتُ كالعادة إلى صفحتي الرسمية في منصّة فيسبوك، ومضيتُ أتصفّح منشورات اليوم على عجل، فإذا بي أصطدم بمنشورٍ تحوّل بعد دقائق من نشره إلى ساحةِ معركةٍ بين كلّ من هبّ ودبّ. في البداية، كان النقاش عادياً وعامّاً، ولكنه سرعان ما تحوّل إلى قضايا شخصية ومسائل شرف!
وبينما أتفرّج على هذه المجزرة الفكرية المُضحكة، كانت تعلو وجهي ابتسامة ساخرة أحاول أن أداري بها اشمئزازي الصّباحي. والحق أنّ هذا الجدال لم يكن بين مفكرين بالمعنى الدقيق للكلمة، بل بين أشخاص لم يتجاوزوا طور المراهقة الفكرية رغم قاماتهم العلمية المزعومة، ويمكن لأيّ قارئ مُتمرّس أن يُغمى عليه بسبب رائحة النرجسية الكريهة التي تفوح من ثنايا التعليقات. ولا يمكن لهذه الرائحة أن تصدر إلا من أقزام يحسبون أنّهم على شيءٍ ويُحبّون أن يُحْمدوا بما لم يفعلوا. لاحظت أن رُدود بعضهم على بعض تتّسم بالعشوائية والتّخبّط والتعميم المَقيت، وربّما حشروا بعض المصطلحات العلمية الحديثة حشراً في جُمَلهم الرّكيكة ليظهروا بمظهر المثقّفين الذين يعرفون بعض الشيء عن كلِّ شيء!
لم تكن لديّ مشكلة قَطّ مع اختلافاتهم، فالاختلاف سنّة كونية والحقيقة ليست حكراً على أحد، لأنّ الأمر يتعلّق بالزاوية التي ننظر إلى الحقيقة من خلالها، والحقيقة بهذا المعنى نسبية في معظمها. إنّما مشكلتي مع هذا الأسلوب المُهَلهَل في الحوار، وهذه الثقة الزائدة المثيرة للاشمئزاز التي يتمتّع بها هؤلاء القوم، وتلك الضحكات المُتكلّفة التي يُعلّقون بها على مُخالفيهم وتلك التّهم الثقيلة والفجّة التي تجري على ألسنتهم بعدد أنفاسهم.
التضادّ لا يكون بين حق وباطل فحسب، بل أحياناً يكون بين حقّ وحقّ
ما يُخفى على هؤلاء السادة المتشدّقين يكمن في أن التضادّ لا يكون بين حق وباطل فحسب، بل أحياناً يكون بين حقّ وحقّ، فيكون السؤال: أيُّ الحقّين أقدر على حلّ المشكلة الفلانية وإعطاء نتائج أفضل؟ وهنا تتدخل الظروف والأعراف وأشياء أخرى لتلعب دورها في اتخاذ القرار الصحيح.
وبحكم اطلاعي الواسع والمُستفيض على مثل هذه السجالات والجدالات العقيمة في منصّة فيسبوك وغيرها من المنصّات، أدركت أنّ المشكلة تتلخّص في أنّنا لم تعد تهُمّنا الأفكار بقدر ما يهمّنا أصحابها، أي أنّ المسألة تتعلّق بشخص المفكّر حصراً، ولذلك تجد تعليقات من شاكلة "من أنت لتُصحّح للعلامة الجهبذ الفهامة النحرير؟ وتجد من يُجادلك يتعامى عن ملاحظاتك وآرائك وتحليلاتك لفكر العلامة الذي يَعبدُه.
وفي الأخير أتمنى أن نتخلّص من هذه العقلية المُزرية التي أورثتنا حالة من التشرّد الفكري والرتابة العقلية، وإن كان لا بدّ من وجود حلٍّ محوري لهذه الإشكالية، فإنه يكمن في انحيازنا للموضوعية المُطلقة، علنا نضع كلّ شيءٍ في مكانه الصحيح.