مشاكل الحياة كمشكلة صحية
سعيد ناشيد
يومًا بعد يوم يزداد عدد الأطباء الذين يستنتجون أنّ التوتّر هو العامل الأساسي في الأمراض الأكثر شيوعًا بين الناس، مثل السكري، ضغط الدم، الأورام السرطانية، وغيرها. في المقابل أصبح معظم الناس مقتنعين بذلك المعطى، فلا تنقصهم إلّا شجاعة تغيير أسلوب الحياة.
والواقع أنّ جانبًا أساسيًا من شجاعة العيش يكمن في شجاعة تغيير أنماط العيش حين يكون ذلك التغيير ضروريًا، سواء في الإطار الفردي أم الجماعي. هنا ينتهي دور الطبيب ويبدأ دور الحكيم. وكما هو واضح ليس من باب المصادفة أن تصطلح شعوب كثيرة على الطبيب باسم الحكيم.
لا ينجم التوتر عن مشاكل الحياة مباشرة، بل ينجم عن طريقة تعاملنا مع مشاكل الحياة. ذلك أنّ المسافة بيننا وبين مشاكلنا لا تساوي صفرا، بل هي مساحة مشحونة بالأحكام المسبقة، وتمثل منبع معظم توتراتنا اليومية، سواء في العلاقة بالذات أم بالغير.
مشكلتنا الأساسية في الحياة هي كيفية التعامل مع مشكلات الحياة. بمعنى كيف ننظر إليها؟ كيف نحسّ بها؟ كيف نعبّر عنها؟ كيف نفهمها؟ كيف نفسّرها؟ وبالجملة ما هي الأحكام المرجعية التي تؤطر نظرتنا إلى المشكلة؟ ذلك أنّ بعض الأحكام المسبقة هي التي تجعل مشاكل الحياة تتحوّل إلى مشاكل صحية.
كل ذات كيفما كان مستواها الدراسي أو الثقافي تختزن في داخلها خبرات النوع البشري بأكملها. هذا ما يجعل المساواة في الكرامة الإنسانية معطى حقيقياً يهم الجميع بلا استثناء
مثلا: حين أنظر إلى وقوعي على الأرض في الشارع نظرة العار، فسأشعر بالعار حالما أقع على الأرض. لكنّي في المقابل أستطيع أن أحرّر نفسي من خلال العمل على تفكيك تلك النظرة، وإثارة الشكوك حول ما يجعل ذلك الموقف مثيرًا للخجل أو حتى جالبًا للعار. هنا يمكنني الاستعانة بالمعلومات الأساسية المستمدة من الأنثروبولوجيا والتحليل النفسي، لكني سأحتاج أيضا إلى تأملات في الذات. كلّ ذات كيفما كان مستواها الدراسي أو الثقافي تختزن في داخلها خبرات النوع البشري بأكملها. هذا ما يجعل المساواة في الكرامة الإنسانية معطى حقيقيًا يهم الجميع بلا استثناء.
قلت، لا يكون التعثّر أثناء المشي في الشارع مخجلًا إلا بقدر ما نعتبره كذلك.
كما لا يكون التعرّض للشتم إهانة إلا بقدر ما نعتبره كذلك.
ولا يكون التخلّي عن الحبيب خيانة إلا بقدر ما نعتبره كذلك.
ولا يكون عصيان الابن عقوقًا إلا بقدر ما نعتبره كذلك.
النضال ضد الإمبريالية أو الرجعية أو الاستكبار، هو صيغة لعدم النضال ضد شيء محدّد، أو النضال أحياناً ضدّ كلّ شيء، أو أي شيء، أو لا شيء
وحين يعتقد المرء بأنّ ما تعرّض له من فقد، فشل، إفلاس، خيبة الأمل، هو بمثابة النهاية، سيصبح الأمر في النهاية كذلك.
لا توجد مشكلة خالصة، بل كلّ مشكلة تكون مشحونة بالعديد من الأحكام المسبقة، والتي من شأنها إمّا أن تُسهل الحل أو تُعقده، كما يمكننا مساءلتها قبل التفكير في أيّ حل للمشكلة.
حين أفكر في أنّ الطرد الذي تعرضتُ له من العمل هو بسبب الإمبريالية أو الصهيونية أو الماسونية أو ما إلى ذلك من المفاهيم النظرية الكبرى، فأنا لن أذهب رأسًا إلى الحل، وذلك بصرف النظر عن حقيقة تلك المفاهيم ودقتها في الدلالة والتعبير.
لا ننس أنّ محبة الإنسانية هي صيغة لعدم محبة أيّ إنسان، لذلك اقتُرفت مجازر كثيرة باسم الإنسانية. وبالمثل، فالنضال ضد الإمبريالية أو الرجعية أو الاستكبار هو صيغة لعدم النضال ضد شيء محدّد، أو النضال أحيانًا ضدّ كلّ شيء، أو أي شيء، أو لا شيء.
المعركة الحقيقية في الحياة ليست معركة الحقيقة بل معركة الأفكار التي تحل مشاكل الناس في واقعهم اليومي، وكلّ يوم.
المعركة الحقيقية في الحياة ليست معركة الحقيقة بل معركة الأفكار التي تحل مشاكل الناس في واقعهم اليومي، وكل يوم
تفسير المشكلة هو الخطوة الأولى والحاسمة نحو الحل، هنا يكمن الفرق بين خطاب الطبيب وخطاب المشعوذ. الطبيب يحاول أن يفهم المشكلة أولا، وهو ما يستدعي كثيرًا من الصبر والتروي، لكن المشعوذ لا يهمه أن يفهم، بل يذهب مباشرة إلى الحلول الجاهزة التي لديه، لذلك يسهل عليه أن يغري اليائسين.
إذا كان تفسير المشكلة هو الخطوة الحاسمة نحو الحل، فإنّ التفسير يخضع بطبعه لأحكام مسبقة قد تضيع الطريق، لكنها قابلة للتفكيك النقدي كإجراء احترازي.
استدعاني صديقي إلى بيته، لقد ظلّ طول الوقت مبتسمًا في وجهي، لكنه لم يمنحني لا طعامًا ولا شرابًا، ما يعني أنّه لم يكن كريما معي! هذا استنتاج ممكن، لكنه يعتمد على المعنى الذي في ذهني حول الكرم، ويعتمد أيضا على السياق الثقافي العام لتدابير الكرم، إلا أنّ الأمر يتعلق بأحكام قيمة قابلة للمساءلة.
أعرف أخا كان يبخل على أخيه في كلّ شيء، لكنه يوم احتاج إلى من يتبرع له بكلية، لم يتردّد في منحه إحدى كليتيه بكلّ شهامة وشجاعة. ما يعني أنّ كل الأحكام التي قد تغضبنا حول سلوك الأشخاص محكومة في كلّ أحوالها بالنسبية وانعدام اليقين.
قدر الحياة أنّ مشاكل الحياة لا تعمر طويلاً، لكن وحدها الآثار الصحية قد تدوم
هنا أيضا تكمن مشروعية النزعات الشكية.
إذا كانت المدرسة الشكية في العصرين اليوناني والروماني تندرج ضمن فلسفات العيش، فلأنّ الشك في الأحكام المسبقة يساهم في تجفيف كثير من منابع الشقاء البشري.
هكذا، حين تدفعك مشكلة ما إلى التوتر، فيمكنك أن تتصرف على النحو التالي: ضع في ذهنك أنّ المشكلة لها عمر قصير، فقدر الحياة أنّ مشاكل الحياة لا تعمر طويلا، لكن وحدها الآثار الصحية قد تدوم.
حاول أن تفكر ليس في المشكلة، بل في طريقة تفكيرك في المشكلة. فمعظم مشاكلك هناك.
إن لم تقدر على إيجاد حل للمشكلة، فإنّ الحياة تتكفل بنفسها بالحل حين لا تسحب ثقتك منها.