مدينة بلا زهور
زرت منذ مدة إحدى المدن الكبيرة العريقة، مدينةٌ تعجّ بالحركة والحياة؛ طرقاتها مكتظة بالمشاة والسيارات والدراجات والتوكتوك والبائعين، ومحالها ومقاهيها ومطاعمها تزخر بالزبائن.. وفي الخلفية أصوات المدينة تنظُمها أبواق الحافلات، وضجيج الناس، والموسيقى الصاخبة الصادحة من كلّ حدبٍ وصوب.
تُجالس أناس هذه المدينة النشيطة وترتاح لفيضِ طيبتهم ونقائهم وكرمهم، وبساطة سلوكهم ومزاحهم وضحكاتهم، إلّا أنّ مدينتهم خاليةٌ من الزهور! تتجوّل في طرقات هذه المدينة فلا ترى زهرة واحدة، بريّة كانت أو منزلية. مدينة رماديّةٌ خالية من الألوان. عجيب أمر هذه المدينة! ألا يحتاج أهلها بعض الجمال ليخفّف عنهم شيئاً من عبءِ الحياة وقسوتها؟
تأخذي تساؤلاتي إلى الدوحة التي أعيش فيها، إلى جمالِ الزهور التي تحيط بالمنازل رغم طبيعة البلاد الصحراوية؛ ثمّ أسرح فأصل إلى أوتاوا الكندية التي أمضيت فيها جزءاً لا بأس به من حياتي، فأستذكر كيف يُسارع الناس إلى زراعة الزهور المتنوّعة ليتمتّعوا بجمالها ما أمكنهم خلال أشهر الصيف القصيرة، قبل عودة الصقيع القطبي الذي يقضي على كلّ ما زرعوه في الصيف.
تأخذني الذاكرة إلى ضيعتي اللبنانية الصغيرة، إلى الرفيد، التي تتنافس نساؤها في تجميل بيوتهن من الداخل والخارج بالأزهار والوورد، بعضها محلّي وبعضها الآخر مستورد. ففي كلّ واحدةٍ من هذه الأماكن المحبّبة إلى قلبي يسعى الجميع، كلٌّ على طريقته، لجعلِ المنظر العامّ جميلاً من خلال زراعة الزهور، ونشرِ الألوان في محيطِ بيوتهم، ليساهموا بذلك في صناعة الجمال الكلّي لمدينتهم أو بلدتهم.
ويفرض السؤال نفسه هنا: ما الذي يصرف اهتمامَ كامل سكان مدينة ما عن العناية بجمال المحيط الذي يقطنون فيه؟ لماذا هذا الانفصال التامّ بين المواطن والمساحة، فلا يبالي بغرسِ نبتةٍ في محيط منزله تُضفي بعضًا من الخضرة والجمال والأناقة على بيته وحارته؟ ليس انعدام الزهور في مدينة بأكملها مجرّد إهمال بشري لعنصرٍ جمالي طبيعي، بل هو مؤّشر لما هو أعمق بكثير: قد يكون ذلك انعدام شعور المواطن بالانتماء للمكان الذي يعيش فيه، أو غياب إحساسه بالأمن والأمان في محيطه، أو قد يكون ردّة فعل منه على مدينته التي أهملته وتجاهلت حاجته للحماية والراحة والاهتمام!
ما الذي يصرف اهتمام كامل سكان مدينة ما عن العناية بجمال المحيط الذي يقطنون فيه؟
أحبّ المشي، ومن عادتي أن أمشي بضع كيلومترات يومياً، لكنّ شبح الحذر والخوف لا يكفّ عن مطاردتي بينما أمشي في الشوارع الضيّقة غير المعبّدة لهذه المدينة الشاحبة. أمشي خائفةً من الوقوع بسبب حجر يعترضني، أو حفرة تفاجئني، أو سيارة اختار سائقها أن يسبقني بينما أهمّ باجتياز الطريق ضارباً عرض الحائط مبدأ "الأولوية للمشاة".
يتجاهل أصحاب المحالّ التجارية حاجة المشاة إلى رصيف يطمئنّون للمشي عليه، فيجتاحونه لتوسعة محالّهم ومقاهيهم، أو يبذرون النفايات عليه وينشرونها في المساحات الفارغة هنا وهناك. ثم ترى محاولة بائسةً من هيئة الأشغال العامة لإنشاء جسر يُيسّر حركة السيارات، لكن الجلي أنه لن يُستكمل في المدى المنظور، وهو ما تشي به قضبان الحديد المغلّفة بالصدأ والغبار المستخدمة في بنائه، ما يزيد من خطورة تحرّك المشاة والسائقين ويعطي بُعداً آخر لشحوبِ المكان مؤكّداً إهمال الفضاء.
السيارات والحافلات والدراجات الهوائية والنارية والأفراد وبعض الحيوانات، كلّهم يسيرون في الطريق ذاته دون أيّة ضوابط تحكم كيفية سيرهم. أصوات متداخلة، وزمامير من آليات النقل والسيارات، ومكبّرات الصوت في المقاهي، وصراخ البائعين... تمشي في الطريق وتدعو الله أن تنجو في خضم تلك الفوضى والتشوّش والضوضاء. كلّ هذا انعكاسٌ لعدم إيلاء السلطات المسؤولة أيّ اهتمام بالجانب الجمالي في المساحات العامة وجعلها آمنة ومحبّبة للعيش.
عندما تهتم السلطات بالأماكن العامة من خلال توفير الخدمات، كخدمات تنظيم السير وتنظيف الشوارع والأرصفة أو توفير المساحات الواسعة والنظيفة والآمنة لتيسير حركة السكّان، وعندما تُفرض القوانين لتشجّع الأفراد على السلوك الذي يجعل حياتهم أكثر انتظاماً، عندها تدب الروح في المدينة، فتنبض بالحياة وتنتعش. وينعكس ذلك على المواطن، فيشعر هو الآخر بالأمان لوجود من هو مسؤول عن رفاهه وسعادته، وتتوّطد العلاقة بينه وبين محيطه، فيزيد فخره بانتمائه إليه، ما يدفعه ليساهم في جعلِ المكان أكثر جمالاً ورونقاً.
ليس انعدام الزهور في مدينة بأكملها مجرّد إهمال بشري لعنصرٍ جمالي طبيعي، بل هو مؤشر لما هو أعمق بكثير
العلاقة بين المدينة والقاطنين فيها علاقة وطيدة، فالمدينة التي تنعم بالاهتمام من أولي الأمر تُشعر قاطنيها بالانتماء، ولذلك يقع على عاتق المسؤولين أمر العناية بالمساحات العامة، وتقديم الخدمات اللازمة لتجعل المواطن فخوراً بالمكان الذي ينتمي إليه. وإذا حصل ذلك، فمن المؤكد أنّ هؤلاء القاطنين سيولون مسألة الاهتمام بمحيطهم وتجميله الأهمية اللازمة. وعندها فقط تبدأ الألوان والزهور بالانتشار، لتُضفي روحاً على المدينة وتجعلها تتألق فتسر أهلها، وأيضًا القادمين إليها.
الإنسان بطبيعته يحب الجمال ويأنس له، ويشعر بالأمان والراحة في الأماكن الجميلة، فمن الظلم ألّا تُولي السلطات الاهتمام بالمساحات العامة، لأنّها بذلك تحوّل أي مكانٍ إلى فضاءٍ بائس يقطنه من لا يهتم لجماله. فمكانٌ خالٍ من الزهور هو مكان خالٍ من الجمال.