مدرسة وشهادة في زمن الإبادة
في هذا الزمن الجديد، زمن الإبادة المعروضة على شاشات البثّ الحيّ المباشر، زمن الانهيار والانحدار والانكسار الأخلاقي، اكتمل المشهد في غزّة وانتهى الامتحان النهائي. كلٌّ قدّم إجابته عن أهم مسألة تواجه البشرية في الوقت الحاضر، وقد حان الآن وقت إعلان النتائج وتوزيع الشهادات.
في مقدمة النتائج تأتي إسرائيل، الدولة المارقة التي تفتقر إلى شرعية الحقّ وحقّ الشرعية، تحصل وبتفوّق على شهادة ارتكاب الإبادة الجماعية، وتنال بدون منازع أيضاً، شهادة الإبداع في أساليب قتل الأطفال والنساء والمدنيين العزّل وقصف البيوت فوق رؤوس ساكنيها، وتدمير المستشفيات والمدارس والجامعات والمساجد، واستهداف الأطباء والعلماء والشعراء والمعلمين والمثقفين، ومنع الطعام والماء والدواء، وتزوير الحقائق، ونشر الأكاذيب، وبثّ الذعر والإرهاب. هذه "الإنجازات" الإسرائيلية الأخيرة تُضاف إلى سجلّ طويل وحافل من جرائم الحرب والتطهير العرقي والقتل والتمييز العنصري والاضطهاد منذ أن بدأت الحركة الصهيونية في تأسيس دولة إسرائيل في فلسطين قبل أكثر من مئة عام.
أمّا الأنظمة الغربية، وعلى رأسها أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، فلا تقلّ تفوّقاً في ارتكاب أبشع الجرائم. وتستحق بامتياز شهادة الشريك الفاعل، الداعم، المموّل، الحامي، المبرّر لهذه المجزرة البشعة. فلو نظرت إلى تاريخ هذه الدول لوجدت جدرانه مكتظة بشهادات التفوّق في شن الحروب المدمّرة والاستعمار والعبودية وارتكاب الجرائم والمجازر. تاريخ لن تكفي محيطات من الحبر لكتابة ما احتواه من فظائع لا يمكن تخيّلها وارتكبتها هذه الدول في كلّ زاوية على هذه الأرض.
أمّا الأنظمة العربية، فهي جديرة بأعلى شهادات التواطؤ والتآمر، وبعضها شريك فاعل في حصار غزّة وتجويعها، أو من خلال تمكين الإبادة بتزويد مرتكبها بما يحتاج إليه من طاقة ومواد أساسية. تعجز اللغة العربية رغم اتساع مفرداتها عن وصف تعاون هذه الأنظمة مع العدو وحالة الذل والهوان والفشل الأخلاقي والحضاري التي وصلت إليها هذه الأنظمة.
جنوب أفريقيا هي الآن، وبدون أدنى شك، قائدة العالم الحُرّ الحقيقي، وليس العالم الحُرّ الزائف الذي تقوده أميركا
أمّا الشعوب العربية فتستحق بدون منافسة شهادة التفوّق في علوم فلسفة غياب الوجود أو وجود الغياب. إنّها الملايين الموجودة الغائبة، الملايين التي هزّت العالم في عام 2011 عندما ملأت الميادين حريةً وثورةً وأملاً. أين هي الآن؟
أمّا شهادة الحرية والعزّة ونصرة المظلومين والدفاع عن المقهورين وتحدّي قوة الظلم وظلم القوّة، فهي من نصيب قلبين شجاعين: قلب جنوب أفريقيا وقلب اليمن. شعب جنوب أفريقيا الشجاع الحرّ الأبيّ المناضل الذي هزم نظام فصل عنصري عنيف دمويّ كان حليفاً لإسرائيل وأميركا وبريطانيا. جنوب أفريقيا هي الآن، وبدون أدنى شك، قائدة العالم الحُرّ الحقيقي، وليس العالم الحُرّ الزائف الذي تقوده أميركا.
وأمّا شعب اليمن الشجاع، فرغم تعرّضه للقتل المستمر والتدمير الممنهج والحصار والتجويع لأكثر من عشر سنوات، أبى إلّا أن يحاول بما أتيح له من إمكانيات ووسائل أن يوقف حرب الإبادة في غزّة. وهو لذلك يدفع الآن ثمناً باهظاً، حيث يتعرّض لقصفٍ أميركي بريطاني مدمّر.
تستحق الشعوب العربية، وبدون منافسة شهادة التفوّق في علوم فلسفة غياب الوجود أو وجود الغياب
غزّة الآن بلا مدارس، ولا جامعات، ولا مستشفيات، ولا مساجد. لكن غزّة مدرسة ذاتها، مدرسة للبشرية جمعاء، مدرسة ليست كأي مدرسة في هذا العالم الصامت أمام هذه المجزرة البشعة. مدرسة غزّة هي الأعرق والأعظم والأجدر في تقديم دروس في الإرادة والصمود والصبر والبطولة والإباء والكرامة والمقاومة.
شهادة مدرسة غزّة هي الشهادة الوحيدة المعتمدة في عالم الحرية، عالم غزة وجنوب أفريقيا واليمن، عالم الأخلاق والكرامة والحضارة.
يا تُرى كيف كانت إجابتك أنت؟ وما هي الشهادة التي ستحصل عليها من مدرسة غزّة؟