مدخلات القضية الفلسطينية ومخرجاتها
لكلّ إنسان في هذا الكوكب تفسيراته الشخصية، أو مخرجاته النهائية حول ظاهرة ما، بحيث تعتمد هذه المخرجات بشكلٍ لا يستهان به على ما يمكن تعميقه من مدخلات في ذهن الشخص؛ فالمدخلات الخاطئة تسري في أعماق الإنسان وتتحلّل في ذهنه، ومن ثم تعاد صياغتها مجدّدًا لتتجلّى على هيئة مخرجات مناسبة لما تمّ إدخاله، أي مخرجات خاطئة.
فمن كان يعتمد في تكوين ذهنه على رأي الشيوخ مثلًا، سيخرج بفكرة أنّ الحرب بين الإسرائيليين والفلسطينيين دينية، ومن كان يعتمد على صيغ الماركسية وما تحمله، سيظن أنّها حرب شركات، أو بروليتاريا ضد إمبريالية أو رأسمالية ربّما، ومن كان يعتمد في تعبئته على أدبيات السلطة الفلسطينية، سيظن أن لا جدوى من الحرب أساسًا، فهي ما حرّكت هدفًا ولا تحريرًا. ومن يعتمد على النظريات السياسية، الواقعية أو البنائية أو الليبرالية، سيخرج بما تمليه عليه تلك النظريات.
كلّ هذه المدخلات، بتعدّد أنواعها، تفسّر ماهيّة الإنسان المختلفة، وما يمكن أن يخرج به بحسب ما يُدخله، ولكنها بشكلٍ أو بآخر تقيّد من رؤيته، وتحدّ من مقدرته على رؤية الصورة بشكلٍ أوسع، وبالتالي تحد من مدى منطقية وجهة نظره التي خرج بها، ومدى اقترابها من الصواب.
وبرأي الذي يقع خارج هذه التصنيفات، وليست له أي تبعية لأي رأيٍّ ساد تأثيرُه على الناس، يرى أنّ الحرب الفعلية قائمة منذ زمانٍ بعيد، ترجع إلى عهد ثيودور هرتزل، ذلك الذي أطلق كتابه "دولة اليهود"، وسعى بشكلٍ جديّ إلى تطبيق مناهجه التي ترمي إلى إقامة وطن قومي يهودي في فلسطين، بحيث تكون الأغلبية المطلقة لليهود، أو تكون المنطقة يقطنها يهود بشكل خالص و"نقي".
المدخلات الخاطئة تسري في أعماق الإنسان وتتحلّل في ذهنه، ومن ثم يعاد صياغتها مجدّدًا لتتجلّى على هيئة مخرجات مناسبة لما تم إدخاله، أي مخرجات خاطئة
الأمر يتحدّد بالنسبة للصهيونية ودعواتها آنذاك، هو صراعٌ وجوديٌ مغلّفٌ بفكرةٍ توراتية. وبالنسبة للفلسطينيين دائمًا أبدًا، هو صراعٌ وجوديٌ "أكون أو لا أكون".
في النصف الأول (1904-1948)، منذ إنشاء إسرائيل على أنقاض الأراضي والسكان الفلسطينيين، أعظم دولة في العالم آنذاك، بريطانيا، وعدت اليهود بإنشاء هذا الوطن، ولكنها لم تستطع تنفيذه، والحديث هنا عن أعظم دولة في العالم وبمساعدات عصابات صهيونية، لم تستطع تحقيق وطن قومي يهودي في فلسطين.
وفي النصف الثاني (1948-2023)، بعد إنشاء كيان إسرائيلي على أرض فيها أغلبية فلسطينية، وبمساعدة قطب من الأقطاب الرئيسة دوليًا، وأعظمها ربّما في القوة العسكرية والاقتصادية، المتمثلة بالولايات المتحدة الأميركية، لم تستطع اجتثاث الفلسطينيين من أرضهم، وإخلاء الأرض لليهود.
بالنظر إلى الصورة بشكلٍ موسّع، نجدُ أعظم الدول في النصفين؛ الأول والثاني، لم تستطع إنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين مقارنةً بالهدف الأسمى المتمثل بإخلاء الأرض من أي جنسٍ غير اليهود، والبحث عن النقاء في دولة لا يعيش فيها إلا اليهود، إلى الآن، لا نرى إلا فشلًا بشكلٍ نسبي في تحقيق هذا الهدف.
مدخلات الهوية الفلسطينية الحقيقية، شيئًا فشيئًا، بدأت تتسلّل إلى النفوس والأذهان في العوالم البعيدة، الغربية منها
وبالعودة إلى ما حدث في السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل، حيث لا عودة إلى ما قبله بعد الآن، يرى هذا الحدث على أنّه جرحٌ يوصف "بجرح النرجسي"، أصاب إسرائيل وحلفاءها القائمين على مساندتها، تحديدًا أصاب اللاهوت السياسي المشترك بين أميركا وإسرائيل، الساعي إلى تحقيق هدفها الأسمى المتمثل "بالنقاء اليهودي" على أنقاض الفلسطيني وأرضه وهويته، كما سبق وحدث على أنقاض "الهنود الحمر" وأرضهم وهويتهم.
وبالنظر إلى واقع الشعوب، يرى أنّ مدخلات الهوية الفلسطينية الحقيقية، شيئًا فشيئًا، بدأت تتسلّل إلى النفوس والأذهان في العوالم البعيدة، الغربية منها. وتمثلت هذه المدخلات بالأصوات التي باتت مسموعة نتيجة مواقع التواصل الاجتماعي، ونتيجة ممثلي القضية الفلسطينية غير الرسميين والأذكياء منهم. ربّما يقود هذا الأمر أيضًا، إلى جرحٍ نرجسيٍ آخر، أصاب اللاهوت الاجتماعي لإسرائيل وأميركا. وننتظر، بفارغ الصبر، ما سيتجلى في مخرجات تلك النفوس التي بدأت للتو بتشرّب القضية والهوية الفلسطينية.