محطات في الثورة (3): من الاعتصام في دمشق إلى ماراثون بين داريا والمعضمية
شهد الأسبوع الأول من إبريل/نيسان 2011 تصاعداً في الزخم الثوري واتساعاً في رقعة التظاهرات ضد نظام الأسد. ولعل أبرز المؤشرات على ذلك، المظاهرات الضخمة التي شهدتها مدن اللاذقية وطرطوس وجبلة الأدهمية ودير الزور وعامودا وحماة وحمص، والتي كانت بمثابة رد شعبي واضح على خطاب بشار الأسد الذي اعتبر فيه مظاهرات السوريين جزءاً من مؤامرة على البلاد، وبعيداً عن كل أشكال السخرية أو التهكم على خطاب الأسد والتفاعل الكوميدي لأعضاء مجلس الشعب مع الخطاب وصاحبه، يمكن القول إن الخطاب بشكله ومضمونه كان من أهم العوامل التي ساهمت في اتساع رقعة المظاهرات في مناطق جديدة وحفَّزت المزيد من السوريين على الانخراط في المظاهرات، ما أدى إلى تصاعد ملحوظ في أعداد المتظاهرين.
إلى جانب خطاب بشار الأسد الأول، كان لنجاح المظاهرات في تونس وتجربة ميدان التحرير في مصر، بإجبار كل من زين العابدين بن علي وحسني مبارك على التنحي، كان لها رصيد معنوي مهم ودافع قوي للمتظاهرين في سورية للاستمرار. من جهة أخرى، كانت تجربة اعتصام ميدان التحرير في القاهرة تطرح تساؤلاً مهماً عن إمكانية وكيفية تنفيذ اعتصام كبير ومستمر في العاصمة دمشق من شأنه أن يجبر بشار الأسد على التنحي.
خلال التحضير لمظاهرة داريا التالية، طرح الشهيد غياث مطر فكرة الاعتصام في دمشق. غياث كان يعتقد أنّ بالإمكان تنفيذ الفكرة، وذلك شرط أن تنجح كل مدينة من مدن ريف دمشق المنتفضة بتشكيل عشر مجموعات ثورية صغيرة تكون كل مجموعة مكونة من سبعة متظاهرين في حد أقصى، تنتقل هذه المجموعات إلى دمشق بواسطة حافلات النقل العمومي في يوم الاثنين، على اعتبار أن أجهزة الأمن والجيش تخفف درجة استنفارها وانتشارها مع انتهاء يوم الجمعة، ثم تبدأ هذه المجموعات الصغيرة بالانتقال تدريجاً من مركز الحافلات العمومية في منطقة البرامكة والعباسيين إلى ساحة المرجة في قلب دمشق. غياث كان يعتقد أيضاً أن ساحة الأمويين هي المكان الأكثر تأثيراً وأهمية للاعتصام، لكن الوجود الكثيف للثكنات العسكرية في مقرّ هيئة الأركان، بالإضافة إلى ندرة حركة المشاة في الساحة، يجعل منها خياراً غير واقعي، بينما ساحة المرجة تقع في مركز دمشق التجاري وتشهد حركة كثيفة للمشاة، وهو عامل مهم يساهم في التمويه في المرحلة الأولى من تجمّع المعتصمين، كذلك فإن الطرق الفرعية لساحة المرجة الواصلة بين الساحة والأسواق القديمة لدمشق، والتي هي أشبه بالحواري، تسهّل عملية الهروب والتخفي في حال إجبارنا على فضّ الاعتصام.
المتظاهرين من أبناء معضمية الشام وفي إطار التنافس الثوري قرروا مرافقة أبناء داريا في مسيرهم عائدين إلى مدينتهم ليتكرر مسير المظاهرة لكن هذه المرة باتجاه عكسي من معضمية الشام إلى داريا وبعدد أكبر
في الواقع، كان انطباعي الأول أنا وكل من استمع إلى فكرة غياث مليئاً بالحماسة، طارت بنا الفكرة إلى أحلام عن خيم الاعتصام في قلب دمشق و المهرجانات الخطابية للثوار وتزيين ساحة الاعتصام بالشعارات وتشكيل لجان لحراسة مداخل الساحة، وصولاً إلى كل المشاهد الثورية التي حفظناها عن ميدان التحرير في القاهرة. لكن في الواقع لم تكن فكرة غياث قابلة للتنفيذ، في ظل القبضة الأمنية لنظام الأسد، وانتشار مواقعه العسكرية والأمنية على مداخل دمشق. بالإضافة إلى ذلك، كان نظام الأسد قد بدأ اتباع تكتيك جديد، وذلك بإغلاق الطرق الفرعية أو الزراعية من مدن الغوطة الشرقية والغربية إلى دمشق، وذلك لإجبار جميع الحافلات والسيارات الخاصة على المرور عبر الحواجز الأمنية ونقاط التفتيش التي نُشرَت على مداخل المدن التي شهدت مظاهرات ضد الأسد والتي كانت تمتلك قوائم بأسماء الناشطين وكل من شارك في المظاهرات، الأمر الذي جعل محاولة أي ناشط الخروج من داريا إلى دمشق بمثابة مخاطرة كبيرة.
في يوم الجمعة الثامن من نيسان انطلقت مظاهرة داريا مجدداً بزخم متصاعد، وبعد أن سارت المظاهرة في المسار المعتاد تجاه شارع الثورة في المدينة، غيّرت المظاهرة اتجاهها إلى شارع داريا معضمية الشام، وعند اقترابها من المركز الثقافي في داريا ومقر الفرقة الحزبية لحزب البعث الذي عُلقت على جداره صورة ضخمة لبشار الأسد، شكلت مجموعة من المتظاهرين جداراً بشرياً لمنع المتحمسين من حرق الصورة أو تمزيقها، وذلك لم يكن حرصاً على صورة الأسد أو مشاعر مؤيديه، بل كان سداً لذرائع النظام الذي كان ووسائل إعلامه لا يتوانون عن تصوير المتظاهرين بأنهم مجموعة من المخربين الإرهابيين الهمج.
تكرر مشهد الوعي مرة أخرى عند المرور بمحاذاة الحي الشرقي الواقع في أطراف مدينة معضمية الشام وهو حيّ نزع نظام الأسد ملكيته من أهالي معضمية الشام باعتباره محاذياً لمطار المزة العسكري وجزءاً من حرم المطار. لاحقاً أقامت عائلات صف الضباط والعناصر في المخابرات الجوية، وغالبيتهم من الطائفة العلوية في هذا الحيّ، وسمح لهم نظام الأسد ببناء منازل وبيوت ومحالّ تجارية في الحيّ، في الوقت الذي كان النظام يمنع فيه أبناء المعضمية وداريا من البناء في مناطق أبعد من مطار المزة العسكري لأسباب أمنية، تجمّع أهالي الحيّ الشرقي لمشاهدة المظاهرة عند عبورها بمحاذاتهم، حين رفع المتظاهرون صوتهم في هتافات "واحد واحد واحد الشعب السوري واحد".
استمرت المظاهرة بالمسير متجهة شمالاً لتقطع نحو 8 كم حتى وصلت إلى مركز مدينة معضمية الشام حيث تلاقت مظاهرة داريا هناك مع مظاهرة مدينة المعضمية، قرابة 6 آلاف متظاهر تجمعوا في واحد من أكثر مشاهد الوحدة الوطنية صدقاً، وأكثر مشاهد الانتفاضة على نظام الأسد تحطيماً لحواجز المناطقية.
وجدير بالذكر هنا، أن عزيمة المتظاهرين لم تضعف ولم تتردد حناجرهم عن الهتافات الثورية أو السخرية من بشار الأسد وخطابه بوجود مقرّ قيادة الفرقة الرابعة التي يقودها شقيق بشار الأسد ماهر ومقرّ قيادة مطار المزة العسكري على بعد أقل من ثلاثة كيلومترات عن موقع المظاهرة.
المتظاهرون من أبناء معضمية الشام، وفي إطار التنافس الثوري، قرروا مرافقة أبناء داريا في مسيرهم عائدين إلى مدينتهم، ليتكرر مسير المظاهرة، لكن هذه المرة باتجاه عكسي من معضمية الشام إلى داريا وبعدد أكبر. وبعد وصول المتظاهرين إلى داريا قبيل غروب الشمس تجمعوا في اعتصام عند دوار الباسل الذي أُطلق عليه لاحقاً دوار الشهيد أبو صلاح السمرة، علت الأصوات المطالبة بالنزول إلى دمشق للاعتصام هناك مجدداً، واستُعيد الحديث عن العوائق الأمنية والمخاطرة الكبيرة بالتحرك إلى دمشق، فانفضت المظاهرة عند أذان المغرب، وبدأ أبناء المعضمية بالعودة إلى مدينتهم لتكون مظاهرة الثامن من نيسان أطول مظاهرة شهدتها مدينتا داريا ومعضمية الشام، والتي نبهت نظام الأسد إلى ضرورة الفصل بين المدينتين بما يمنع تكرار هذا المشهد المهيب، وهو ما حصل بالفعل بعد يومين من المظاهرة حيث أقيم حاجز مشترك للفرقة الرابعة والمخابرات الجوية فصل بين داريا و المعضمية واعتقل عليه الكثير من شباب المدينتين، لتستمر استراتيجية النظام في الفصل بين المدينتين حتى يوم التهجير القسري لأبناء داريا وثوارها في 2016، ولا يزال هذا الحاجز موجوداً حتى يومنا هذا.