ما معنى أن يكون المرء سعيداً؟
ما معنى أن يكون المرء سعيداً حقاً؟ وهل للسعادة أسرار وسبل، أم هي قرار واعٍ يُتَّخَذ؟ أم مجرد هبة ربانية يمنحها الرب لمن يشاء؟
أتساءل تارة: أنفترض حينما ننشد السعادة كغاية ومبلغ، أنّنا سنصل إلى نقطةِ حياةٍ ينعدم فيها الألم والمعاناة؟ ألا يقول فريدريك نيتشه إنّ المتعة والألم مرتبطان بقوة معاً، وإنّ من يريد أكبر كمية ممكنة من المتعة، عليه أن يقبل بكميةٍ تُساويها من الألم والوجع؟
المؤسف في الأمر أنّ الواهمين في معنى السعادة والضائعين في رحلة البحث عنها لا يُعدّون ولا يُحصون، وهذا يُعزى إلى هذا الكمّ الهائل من التصوّرات المادية المغلوطة والمقترنة بالسعادة التي تحيط بحياتنا بشكل هائل، والتي أفرزتها وسائل التواصل الاجتماعي المزيفة أساساً، وكذا الجانب الموحش من العولمة والحداثة، فأصبحت السعادة لصيقةَ الإشباع العابر، وأصبح الإنسان السعيد هو من يجني أموالاً طائلة ويأكل في أرقى المطاعم ويلبس من أفخم الماركات العالمية. وهذا الخلط بين السعادة والإشباع هو ما أوهم الكثيرين ودفع بهم إلى الجري وراء طريق الماديات الذي لا نهاية له، فأضاعوا بذلك الطريق الصحيح. والحقيقة أنّ الإشباع مسألة غرائزية وأنانية ولا ترقى إلى الإنسانية، في حين أنّ السعادة مفهوم كوني ومعنوي سامٍ، وربطه بالإشباع أمر غير عادل البتة. فما الذي يفرق حقاً، إذا كانت السعادة تتمثل بإشباع الحاجات الغرائزية فقط، كما يفعل الحيوان الذي يقوم بذلك من أجل صراع البقاء؟
ربط السعادة بالأشياء والتفاصيل البسيطة المحيطة بنا، يختصر علينا الكثير من الأشواط، ويجعل السعادة بالقرب منا دوما
ولعلّ المؤلم في الأمر أنّ هذا لم يعد يفرق فعلًا عند الإنسان الذي هزمته شهواته الحيوانية وسيطر عليه حبّ الأنا، وأضحت الحياة بالنسبة إليه ساحة حرب يتصارع فيها من أجل كسبِ الماديات وإشباع ذاته الناقصة. في الجانب المقابل، لا يمكن للفلسفات الحالمة التي تتخطّى الإشباع وترى في الجري وراء الفضيلة والمعرفة وحرمان الإنسان طموحاته المادية مكمن السعادة، ذلك أنّها تسقط الذات الإنسانية في وحل الطوباوية الزائفة وتعمّق من ظواهر الحرمان والكبت التي لا تحمد نتائجها وعواقبها.
وعلى ذلك، فإنّي مؤخراً لم أعد أرى في السعادة ذلك الشيء الكبير والبعيد الذي يستحق رحلة بحث مطوّلة وعميقة. فأنا من جهة لا يمكنني ربط سعادتي طبعاً باللذة المادية، وأفقد بذلك متعة الاستمتاع بالأشياء البسيطة، كما أنّني من جهة أخرى، وبصفتي كائناً له حاجاته ورغباته الغرائزية لا يمكنني أن أرى في حرماني المادي واهتمامي بجانبي الروحي وحده سعادتي المأمولة، إذ قد تقتلني أوهام المثالية الكاذبة وأقع ضحية لحرمانٍ قد يدفعني يوماً إلى أن أسلك طرقاً شائكة لإشباع رغباتي البشرية الأساسية.
لم تكن السعادة يومًا انتظارًا يُرجى، بل قرارًا يُتخذ
وبالتالي، فقد تستغرب يوماً إن سألتني: أين أجد السعادة؟ أجبتك أنّها توجد عندي، ربّما في أكلة مميّزة، في رقصة جميلة، في ضحكة مباغتة، في رائحة القهوة عند أنفي، في كتاب جيّد بين يديّ، في خربشة ليلية تحت النجوم... ولربما تساءلت مرّة أخرى: وكيف تجدين في هذه الأشياء سعادة؟ لأجبتك أنّنا حينما نقرن السعادة بالأشياء والتفاصيل البسيطة المحيطة بنا، فإنّ هذا يختصر علينا الكثير من الأشواط، ويجعل السعادة بالقرب منّا دوماً. وإنني إذا أردت تلخيص فلسفتي في السعادة، فسأذكر حتماً الامتنان. إنّ تقديري العظيم لما أملكه، وإن بدا تافهاً لا يستحق الذكر، ولِما أنجزه وإن بدا عادياً لا يستحق التصفيق، هو سرّ بهجتي الروحية. فالامتنان يصنع سعادتي الخاصة بي، ولا يقيّدني بالمقارنات الفارغة، فهو لا يعمي بصري بالماديات ويوهمني بالمظاهر، بل يفتّح عينيّ على الأشياء بحجمها الحقيقي، ولا يُضخم من أناي، ويجعلني في حربٍ وسباقٍ مع الآخر، بل يزرع في وجداني بذور التسامح والمحبة. أيوجد في السعادة سبيل أنقى من الرضا والامتنان؟
واختياري للرضا والامتنان كسرٍّ من أسرار السعادة أقرب للمنطق والعقلانية، وأبعد عن التصوّرات المتخيّلة والحالمة، وأقصد بهذه التصوّرات تلك التي تتحدث عن السعادة الفاضلة بمنأى عن المعاناة والألم، وكأنّ الواقع بقعة مقدّسة لا تعرف عن الحروب والحزن والحرمان شيئًا، فتجعل بذلك من السعادة مجرّد سراب عابر.
ولا يمكنني بأيّ حال من الأحوال أن أميل يومًا إلى هذه التصوّرات، أو أقف لأنتظر أن تأتيني السعادة الخالدة، فإذا كنت تنتظر أن تحصل على السعادة يوماً بعد أن تحقّق كلّ أحلامك، وتصبح كلّ جوانب حياتك مثالية فأنت مخطئ تماماً، لأنّ عجلة الحياة وضجيجها المتواصل لا يمكن أن يتوقفا لأجلك ولأجل سعادتك، حيث ستقضي ليالي بيضاء لتدرس كثيراً، ثم ستعمل بجهدٍ لتملأ رصيدك البنكي وتسدّد الفواتير وتشتري المنزل والسيارة، ثم ستختار شريك الحياة لتستقر معه.. ستبتلعك مشاغل الحياة وأنت ما زلت تنتظر السعادة! لأنّك ببساطة ربطت السعادة بـ"عندما"، والحقيقة أنّ السعادة لا تاريخ لها، ولا وقت محدّداً لها. وفي الوقت الذي ستفهم فيه أنّ في الحياة زحمةً لا تتوقف من أجل الانتظارات الفارغة ستدرك أنّ التفاصيل المبهجة غالباً ما تُخلَق، ولم تكن لتوجد صدفة على جوانب الطرق، وأنّ السعادة لم تكن يوماً انتظاراً يُرجى، بل قراراً يُتخذ!