"ما خفي أعظم" في ضيافة العجوري

11 يناير 2023
+ الخط -

سلطت النسخة الأخيرة من برنامج "ما خفي أعظم" على قناة الجزيرة، تحت عنوان "خارج الحسابات"، الضوء على الكتائب المنتشرة في الضفة الغربية، وبالتحديد كتيبة جنين في مخيمها، التابعة لسرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، وعرين الأسود في نابلس؛ ذلك أنّ الكتيبتين تثيران قلقاً واستنزافاً للاحتلال، وتمثلان ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ النضال والمواجهة الفلسطينية مع الاحتلال، لجهة استقطاب فئة الشباب التي تحظى بحاضنة شعبية، وتشكل حالة من الوحدة الوطنية في الميدان.

شخصيات نضالية عديدة ظهرت في هذا الحلقة، على رأسهم القائد العام لسرايا القدس أكرم العجوري، الذي لا يظهر في مقابلات تلفزيونية، ولا تعرف له صورة، ومن غرفة مظلمة في الضاحية الجنوبية لبيروت، لا تكشف صورة وجهه بوضوح، تحدّث العجوري عن خبايا استهدافه الأخير عام 2019، ونظرته لكتيبة جنين، وعلاقاتها مع عرين الأسود، بالإضافة لنظرته للحكومة الإسرائيلية المقبلة، وأداء السلطة الفلسطينية، وصولاً إلى المعركة المقبلة مع الاحتلال، وما أعدّته المقاومة في حال اندلاع معركة جديدة.

كان من اللافت جداً أنّ هذه الشخصية التي فقدت فلذة كبدها "معاذ" عام 2019، عبر عملية إسرائيلية استهدفت منزله الكائن في العاصمة السورية دمشق، كانت في الأصل تستهدف القيادي العجوري، ولا يزال الاحتلال يلاحقه. وقد أشار العجوري إلى جهة دولية لم يسمها، منعاً لما سماها "الحساسيات"، كان لها دور في تقديم معلومات في الساعات الأخيرة للإسرائيليين عن مكان وجوده، معبّراً بغموض عن أنّ هذه الجهة معلومة له. ولم تتوّقف المحاولات، بل تبعتها محاولتان، واحدة في سورية مجدّداً عبر عميل من لبنان، وآخر من غزة إلى سورية أيضاً، وقد تمّ كشفهما والقبض عليهما.

ينطلق العجوري في وصفه لعمل كتيبة جنين من الخلفية التاريخية للمخيم، فما يحدث هو "تراكم طبيعي للتاريخ بعد عشرين عاماً"، وكأنّ التاريخ يعيد نفسه في هذا المخيم الذي خاض معركة مع أعتى جنود الاحتلال الإسرائيلي، أقلّ ما يقال عنها إنها ستالينغراد مصغرة، عام 2002، فقوات الاحتلال التي حاصرت المخيم لمدة 11 يوماً، واستعملت فيه كلّ أنواع الأسلحة، نبت فيه مقاومون جدد كالقائد في سرايا القدس، ابن مخيم جنين الشهيد محمود طوالبة، ملقناً مع بقية المقاومين من مختلف الفصائل جنود الاحتلال درساً قاسياً.

كتيبتا جنين وعرين الأسود تثيران قلقاً واستنزافاً للاحتلال، وتمثلان ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ النضال والمواجهة الفلسطينية مع الاحتلال

كان من اللافت جداً ما كشفه العجوري عن أعداد ما سماها "النواة الصلبة" لكتيبة جنين، بأنها مائة مقاتل، مجهزون بالعتاد العسكري اللازم، وبالمعنويات العالية، ومن خلفهم عند الضرورة تتحوّل هذه النواة إلى المئات من المقاتلين، وما كشفه "أبو الحسن"، أحد مقاتلي الكتيبة، أنّ من يريدون الالتحاق بكتيبة جنين بالمئات، فقافلة الانتظار طويلة، حتى أنّ السلاح ينتقل من يد شهيد إلى آخر، في دلالة على ندرته.

يظهر البرنامج حالة الوحدة الوطنية الميدانية بين المقاتلين، فلا فرق بين أبناء السرايا والقسام وشهداء الأقصى، كما يكشف التخصّصات داخل كتيبة جنين من وحدات "المراقبة والرصد"، "المتفجرات"، "المواجهة والاشتباك"، وفي هذا إشارة واضحة إلى التطوّر النوعي والتراكمي للكتيبة، فضلاً عن تصوير التدريبات العسكرية، وتصنيع القنابل والمتفجرات بإمكانيات محلية، وهو ما مكّن كتيبة جنين وغيرها من بقية المجموعات من استهداف وكشف دوريات الاحتلال العسكرية ومواجهتها.

تمحورت فكرة العجوري حول دعم ورفع وتيرة العمل المقاوم في الضفة الغربية عبر زرع العديد من الكتائب، والتعاون مع الأطر الشبابية المقاومة في الضفة الغربية، فكانت كتائب طوباس، وطولكرم، ونابلس، (التابعة لسرايا القدس)، وتمّ التنسيق والتعاون مع مجموعة عرين الأسود، عبر أدهم الشيشاني، فضلاً عن إبراهيم النابلسي. وكان من الواضح جداً أنّ الهدف هو تعزيز ودعم أيّ إطار فلسطيني يواجه الاحتلال من غير احتوائه في جهاز السرايا، كما عبّر العجوري، فالمقاتلون بنظره سواسية. 

وقد قال المراسل العسكري الإسرائيلي للقناة الـ13 الإسرائيلية الذي ظهر في البرنامج أور هيلر إنّ الاحتلال يعي جيداً ماذا يمكن للسرايا في القطاع القيام به في حال أقدم الاحتلال على عمل عسكري كبير في جنين، بحيث أنّ معركة وحدة الساحات ما زالت ماثلة في أذهان قادة جيش الاحتلال، وبالتالي فهم يتعاملون بحذر و"حساسية" مع مخيم جنين.

وإن كانت للسلطة الفلسطينية حسابات وارتباطات، إلا أنها مطالبة بالتوقف عن تعقب المقاومين والتنسيق الأمني مع الاحتلال

وفي ظلّ ما شكلته تلك المجموعات المقاومة من أزمة لجيش الاحتلال، تظهر السلطة في لباسها الذي اعتادته، ونهجها التنسيقي مع الاحتلال، ولكن هذه المرّة عبر الترغيب، بضغط من الاحتلال، كما أوضح منسّق عمليات الحكومة الإسرائيلية في الضفة إيتان دانغوت، عبر عروض مقابل التخلّي عن العرين، وكان من المفاجئ سماع "أبو فلسطين" قائد العرين وهو يتحدث عن تقديم سيارة ودفعة مالية لشراء شقة، وتوظيفه في الأجهزة الأمنية، مقابل تخلّيه عن السلاح، وهو ما كرّره رفيق دربه "أبو مجاهد"، منفذ عملية شافي شمرون، بحيث كانت المغريات أعلى.

تتعدّد جوانب المواجهة مع الاحتلال، ومنها الأمنية والاستخباراتية عبر العملاء، وقد نجحت السرايا في قطاع غزة في زرع عميل مزدوج أطلقت عليه لقب 106، بحيث تمكّن من تصوير الضابط الإسرائيلي والأمكنة التي ارتادها معه في القدس، وتبيان كامل مخطّط الاحتلال لاستهداف قادة الجهاد في غزة عبر مجموعة من العملاء. وكشف العجوري أنّ العميل 106 هو جزء من فريق من العملاء المزدوجين في إطار الحرب الأمنية مع جهاز الاستخبارات الإسرائيلي، وهي جهود منسقة مع الجهاز الأمني للقسام في إطار تبادل المعلومات، فالجميع مستهدف.

كانت كلمة "كفى" من العجوري عنوان الرسالة إلى السلطة، في ممارساتها القمعية مع المقاومين، وإصرارها على التنسيق الأمني مع الاحتلال، وهي رسالة تكرّرت على لسان المقاومين في البرنامج، ولقد أظهر البرنامج رسالة مصعب اشتية، وهو من فريق عرين الأسود، وقيادي في القسام، يعبّر فيها تلميحاً عمّا يعانيه في سجون السلطة، مكتفياً بكلمات بسيطة، وخاتماً رسالته بإيمانه بالتحرير.

لم يهاجم العجوري السلطة بقسوة بموضوع التنسيق الأمني، إلا أنه نبّه إلى تداعيات الاستمرار به وما له من عواقب وخيمة، وإن كانت للسلطة حسابات وارتباطات، إلا أنها مطالبة بالتوقف عن تعقب المقاومين. أما الاحتلال الإسرائيلي، فحكوماته تتشابه يميناً أو يساراً. وبكلام غامض، لكن بلغة يعيها الاحتلال، كشف العجوري أنّ ما يعده "محور المقاومة" الكثير، منبهاً إلى أنّ ما يظهر على لسان قادة المقاومة لا يقارن بما نعده لها، ومن الجدير التوقف عنده أنه أطلق على المعركة المقبلة مع الاحتلال الـ"المفتوحة" بأنه سيكون "لها ما لها من نهاية"، من غير توضيح أكثر.