ما بين العتمة والنور

22 اغسطس 2021
+ الخط -

مطوفا في الفكر
"مطوفا
أفكر في الكون،
رأيت القليل الذي هو خير
يتقدم بخطى ثابتة
نحو الخلود.

ورأيت الكثير الذي هو شر
يمضي سريعا:
ينحل
ويتبدد
ويموت".

الشاعر الأميركي "والت ويتمان"، ترجمة "سعدي يوسف".

كيف بدأ كل شيء

عندما كان يأتي المساء، ويخيم الظلام على الميدان، ويغمض العالم أعينه، كنت أترقب وسط القلق والخوف من أين سيأتي الهجوم؟ أتساءل وأنا أشاهد الحرائق المشتعلة ومشاهد الفوضى المقبضة للنفس، ماذا فعلنا حتى يحدث لنا هذا كله؟

قبل حلول الظلام بقليل

رأيتهم يعلون السور القصير الذي لا يتجاوز ارتفاعه الخمسين سنتيمترًا، المحيط بالساحة الواسعة لأكبر جوامع المدينة، والذي مضى على بنائه قرابة المائة عام، ليصبح محاطًا بجدار قبيح، ارتفاعه قرابة المترين، وبوابات حديدية صدئة تحت دعاوى إيقاف زحف الشحاذين ومتسولي الرحمة على ساحة الجامع، والحد من خروج المظاهرات منه ليحولوا دون لعب الأطفال.

حلول الظلام

كان الظلام قد حل في نفسي، ومعه حظر التجوال، لم أستطع العودة، أصبحت محاصرا، كانت المعركة قد هدأت في محيطنا، لكن أصوات الرصاص الآتية من بعيد لم تهدأ ولم تتوقف.

ثمة شيء ما غريب في علاقتنا بالنور، فعندما ينقطع التيار الكهربائي لا نقول انقطعت الكهرباء، بل نقول انقطع النور

عندما يغيب النور

دائما ما تبدأ الحروب في الظلام عندما يخيم الليل، أو حين تظلم القلوب، ومع أول غارة يطفأ آخر نور، الحرب تكره النور، يخيفها، لأنه شاهد على قبحها، تهرب منه، تطارد حامليه، تلقي بهم في عتمة أقبيتها، وعندما تظلم السماء تشنقهم.

تبدأ الحرب تنقطع الكهرباء، فيتوقف الهواء، وتجف المياه، وتتوقف الأجنحة عن التحليق، يبكي الصغار، ويسب الكبار، وتتعطل الأيدي العاملة، يستيقظ النائمون من أحلامهم، يزداد أنين المرضى، تخرج الثعابين من جحورها، ويعود الإنسان إلى بدائيته، أمراء الحرب يستمرئونها لأنها تمنحم ليلا أطول يعيشون فيه وعقودا لإعمار ما هدموه، يروجون بضاعة الكراهية والطائفية والعنصرية والخوف، وتتراكم أرباحهم، أمراء الحرب مثل مصاصي الدماء يقتلهم طلوع النهار.

الحرب جملة كاملة غير مفيدة، في اليوم الأخير منها تشرق الشمس، تتوقف الحرب فترجع الكهرباء، ويعود الغائبون وتبدأ الحياة دورتها من جديد، يكمل النائمون أحلامهم ويستأنف الأطفال لعبهم.

أحاديث الظلام

لم تعد الأحاديث التي تهمس في الظلام رومانسية، لم يعد الكلام أصلا يدور حول أضواء الشموع، ولا عن الحنين إلى عصر السهر على أضواء لمبة الجاز، وأساطيرالآباء الأولين، صارت الهمسات تدور عن الحرب القائمة وضحاياها والخوف من الحرب المحتملة، ولم تعد النكات مضحكة، الظلام منهك والليل الطويل يعشش فيه اليأس، لا أحب الحرب ولا الظلام، ولا يستحق الإنسان أن يعيش خائفا من السجن وعتمته.. اللهم اجعله خيرا.

في انتظار أن يجيء النور

ثمة شيء ما غريب في علاقتنا بالنور، فعندما ينقطع التيار الكهربائي لا نقول انقطعت الكهرباء، بل نقول انقطع النور، كأن الشيء الوحيد اللذي تقوم به الكهرباء هو إضاءة حياتنا التي تلفها العتمة، كأننا نفتقد نورا عرفناه قبل اختراع الكهرباء.

النور يأتي مرادفا للخير، فصباح الخير صباح النور، ومساء الخير مساء النور، كأن الضيف يأتي للبيت حاملاً النور مع أكياس الفاكهة، لذلك يقال له: "نورت" بين الحين والآخر، تعبيرا عن الحفاوة.

وكانت البيوت عندما تبنى لا يغيب النور عن تفكير البنائين القدماء، فيخصصون له مكانا يدخل منه ضوء الشمس، على أمل أن يأتي اليوم الذي يقيم فيه للأبد، فلا يغادر حياتهم. نلعن الظلام ونضيء الشموع، ويسمى الأطفال باسم الـ"نور" ذكورا وإناثا، سواء بسواء، بحثاً عن الخلاص من ظلام الليل الطويل، وانتظارا لأن تتجلى "العذراء" أم النور.

حتى ينقشع الظلام

في الأوقات التي يخيم فيها الظلام على حياتنا، ومدننا، يجب أن تقودنا بصيرتنا، قد لا نعرف لماذا ساد الظلام؟ وكيف انتشر العمى؟.. لكن ما نعرفه بالقطع أنهما سيرحلان، كما حلا، سيرحل الظلام لأنه نقيض الحياة، ولأن الحياة دائمًا ما تنتصر، سنظل دائمًا في انتظار انقشاعه، نحول بانتظارنا دون تمدده، ولن نكف عن الرؤية.

دلالات