ماذا يمكن أن تقول الفلسفة في زمن الزلازل؟
هناك مشهدان في باليَ الآن، الأول مشهد القس القانط في رواية، الطاعون، لألبير كامو، الذي يئس من تبرير الشر، وتمرير أقاصيص العذاب داخل أذهان العامة، مُحاولاً تقبّل موت الأطفال والعجائز على يد الطاعون القاتل، مُبرّراً ذلك بأنه انتقام من السماء.
المشهد الثاني في رواية، الإخوة كرامازوف، لدوستويفسكي حين يصرخ إيفان: "لا جدوى من عناية إلهية تُبرّر عذابَ الأطفال". فأيّ مُبرّر وراء موت آلاف الأبرياء بسرطان الثدي أو فيروس كورونا أو زلزال يضرب منطقة ما؟!
وهناك مشهد ثالث، منذ أكثر من خمسة أيام، زلزال يضرب سورية وتركيا، وتحت الأنقاض طفلان، تحمي الأخت الكُبرى رأس أخيها الصغير، وتقابل المُسعفين بابتسامة أمل. ذلك المشهد كفيل بخلق شعورين متناقضين، يأس وأمل، خيبة ورجاء، إيمان وكفر، يقين وشك، حياة وموت، كلّ الأضداد ستجتمع في ذهن الرائي، ولكن ما لن يختلف عليه أحد، ذلك الجمال النابع من ابتسامة الطفلة.
لم يُمهلنا هؤلاء السادة مُدّعو الفضيلة، أصحاب المنطق التبريري، ليخرجوا علينا ويبرّروا حدوث الزلزال وموت الأبرياء، على أنه غضب من الإله، قائلين إنه لا تهتز الأرض إلا غضباً على مَن فوقها. ولكن ما ذنب الأطفال؟ أليسوا أحباب الله؟! ألم يحدث زلزال (مثلاً) في عهد النبي محمد، ألم يهتز جبل أُحد ذات مرّة، فهل اهتز غضباً على قوم بينهم رسول الله! أو لم يقل النبي: "إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم"!؟
أي منطق هذا الذي يدفع بشخص إلى تبرير الشر، لست كابن سينا حتى أُصوّر الشر على أنه بداية الخير، وحين نتجاوزه نكون قد وصلنا إلى الكمال الخيّر. أنا شخص طبيعي، مكلوم، في وطن مأزوم، أمام عينيه رأى أرواحاً طاهرة مزهوقة، فأيّ عزاء سنقدمه إلى هؤلاء المكلومين والضحايا اليوم؟
على الفلاسفة أن يُقدّموا مواعظهم على جبل المعرفة، صادحين بالقول حتى يراهم ويسمعهم القاصي والداني
في عام 1755م وقع زلزال لشبونة، الذي يُعدّ أسوأ حدث مرّ على البشرية وقتها، حينها وقف فولتير، وقال: "أي عزاء يمكننا أن نقدمه للسكان المكلومين حين نقول لهم: اسقطوا وموتوا بهدوء؛ فمن أجل سعادة العالم ستنهار ملاجئكم.. وجميع شروركم هي خير بالنظر إلى القوانين العامة".
اليوم، على جميع الشعراء والأدباء والمفُكرين الوقوف موقف الفيلسوف اليائس الخائب، مُردّدين قصيدة فولتير:
"وخليفة في قديم الزمان
حين حانت ساعة الاحتضار
قال لله معبوده في آخر مناجاة
سأحمل إليك أيها الملك الأوحد والكائن اللامحدود
كلّ ما لا تملكه في امتدادك الواسع
من عيوب وندم، وشرور، وجهل.
لكن كان عليه أن يُضيف الأمل".
في تلك القصيدة تخلّى فولتير عن الأمل كونه كذبة، وهماً غير حقيقي، مُستبدلاً به الخيبة الجذرية، التي ترتطم بنا كصفع موج البحر، لنتأسى بلسان حال بطل روايته الشهيرة "كانديد"، حين قال في آخر الرحلة بعدما أصابته الخيبة، مُتخلياً عن الأمل: "علينا أن نحرث حديقتنا".
نعم، علينا أن نحرث حديقتنا من جديد، سورية، وتركيا، ولبنان، والعراق، ومصر، والوطن العربي المكلوم كله، علينا أن نكفر بذلك الأمل القاتل الصريح. القليل من الأمل لا يضر، ولكن الكثير منه سامٌّ، علينا بتلك الخيبة التي ترطم بنا عرض الواقع، علينا أن نرى الحاضر؛ واقعنا الحاصل، وأن نحرث الحديقة.
القليل من الأمل لا يضر، ولكن الكثير منه سام
أحسب أنّ الفلسفة سيكون عليها تقديم الكثير من الإجابات عمّا حصل، على الفلاسفة أن يُقدموا مواعظهم على جبل المعرفة، صادحين بالقول حتى يراهم ويسمعهم القاصي والداني.
لا أزال أنتظر جواباً شافياً مِن الفيلسوف سعيد ناشيد يُثلج صدري من نار مُستعرة اصطليت بلظاها، جرّاء ما حدث في سورية وتركيا، وأتمنى منك أيها الحكيم، لو قرأت مدونتي، أن تُجيب عن ذلك السؤال: "أيُّ عزاء سنقدمه إلى هؤلاء المكلومين والضحايا، وأيّ عزاء سنتشبّث به نحن التائهين بين الأوهام والآمال، وما دام لا يوجد زمن آمن (كما يقول سينيكا) فكيف نثبُ إلى مرحلة ترويض الوحوش دون أن تتفشّى فينا عدوى التوّحش؟".
هل لديك جواب أيها الحكيم؟
تحياتي لكلّ المكلومين والضحايا والغارقين في أحزانهم، ولا أخصّ بالتحية هؤلاء المُتشدّقين المتنطعين الذين برّروا موت الأطفال والشيوخ والنساء!