مؤانسات رمضانية (2): يسقط حاتم الطائي
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...
بينما أنا أسعى، بناء على طلب صديقي أبو نزار، إلى إقناع الأصدقاء بضرورة استئناف السمر في هذا الرمضان، إذ انكسرت الجَرَّة، كما يقولون، في رأسي، واضطررت إلى دعوتهم إلى العشاء في بيتي، وانطبق علي المثل القائل إن من يحاول الدخول بين المتشاجرين (يأكل نصف الضربات)، وأتذكر ما حكاه لي ذات يوم العم أبو عبد الله الجعبي عن رجل مصلح جلس يعلم ابنه فنون الإصلاح بين الناس، فقال له إذا جاءك رجلان متخاصمان أحدُهما قنوع والآخر طماع، فما عليك إلا أن تأخذ من القنوع وتعطي للطماع، وهذا يرضي الإثنين، وأما إذا جاءك طماعان، فالحري بك أن تدفع لهما من جيبك لترضيهما.
قال الابن: ولنفرض جاءني اثنان قنوعان؟
فقال الأب: هذا النوع من الرجال لا يصل إلى عندك!
قال أبو نزار، وهو منتش بما ازدرده من أطعمة دسمة:
- ماذا تقصد من هذا المثال أخي أبا المراديس؟
قلت: مقصدي واضح يا أبا نزار، فمن أجل أن نستأنف السمر الرمضاني، وتتمتع حضرتك بتناول أطايب الطعام، علقت أنا بتكاليف الدعوة، وزاد الخال مصطفى طيني بلة عندما جلس يقول لي وهو متكئ على الوسادة:
- يا ابن أختي، اخرب بيتك واستر وجهك!
قال أبو النور: إنها مشكلة جدية نعاني منها نحن العرب بشكل خاص يا أبا نزار.
قال أبو نزار بلا مبالاة: أية مشكلة أخي؟
قال أبو النور: مع أنني إنسان غير مدبر، وقد عشت عمري كله غير مكترث بالحسابات المادية وضرورة التوفيق بين الدخل والإنفاق، إلا أنني أرى وجهة النظر التي يطرحها البخلاء على بساط البحث ليست خاطئة تماماً.
قال الخال عمر: هاه! وماذا يطرح البخلاء، طرحهم الله أرضاً؟
قال أبو النور: لي صديق بخيل إلى درجة أنه إذا كان يعاني من ارتفاع الحرارة، ووجد شخصاً بحاجة إلى حريرة واحدة يمتنع عن إعطائها له! هذا الصديق قال لي مرة إن من خرب بيت الأمة العربية وما عاد ثمة أمل بأن تعمر من جديد هو المدعو حاتم الطائي الذي كان يُطعم ما عنده للضيف ويقعد هو وأولاده (على الأرض يا حكم!)، وأنا لست معه في إفراطه في التقتير، ولكنني مقتنع بأن عادة الكرم العروبية المتفلتة من أي انضباط هي عادة سيئة. هل تريدون أن أعطيكم مثالاً حسياً مقنعاً؟
قال أبو الخير: يا ليت.
قال أبو النور: أنا أعرف حق المعرفة أن صديقنا أبو مرداس قد استدان اليوم صباحاً ثلاثة آلاف ليرة سورية، والسبب الرئيسي لذلك هو دعوته إيانا الليلة إلى العشاء، فماذا لو كنا واقعيين ومنطقيين وعلاقتنا تقوم على الصراحة، وبدلاً من أن يضطر الرجل إلى التمول بالعجز على طريقة العالـم الاقتصـادي جون مينارد كينز يقدم لنا من الطعام أبسطه وأقله كلفة، وفي الوقت ذاته أخفه على المعدة، فنكون نحن من الناس القنوعين الذين لا نحتاج إلى العم أبي عبد الله الجعبي ليصلح بيننا.
فنجر أبو نزار عينيه، وتقدم من أبي النور قائلاً له:
- عفواً عفواً، ماذا قلت أخي؟ طعام بسيط في رمضان؟ وخفيف على المعدة كمان؟ وكأنك تدعوني الآن صراحة إلى أن أضرب رأسي بأقرب جدار!
قال أبو النور: إنني أرأف بالأحوال يا أبا نزار، حسناً، أنا سأعود بك والأصدقاء إلى مستهل حديثي عن الحكم التي يطلقها صاحبي البخيل. لقد تحدث طويلاً عن الضيف والاحتفالات المبالغ فيها التي نجريها نحن أحفاد حاتم الطائي له، أخي، هل تستطيع أن تقول لي ما الذي يقدمه الضيف للحياة حتى يقف الناس في خدمته كالخدم؟
حك أبو نزار رأسه بأصابع يده وقال مخاطباً أبا النور: عفواً أخي، هل ستلتزم معنا بجلسات السمر حتى نهاية الشهر؟
قال أبو النور: طبعاً.
قال أبو نزار: أنعم وأكرم، والله إذا كان حاتم الطائي خرب بيت الأمة العربية، أما أنا فلن يخرب بيتي أحد غيرك!
فقال الأب: هذا النوع من الرجال لا يصل إلى عندك!
قال أبو نزار، وهو منتش بما ازدرده من أطعمة دسمة:
- ماذا تقصد من هذا المثال أخي أبا المراديس؟
قلت: مقصدي واضح يا أبا نزار، فمن أجل أن نستأنف السمر الرمضاني، وتتمتع حضرتك بتناول أطايب الطعام، علقت أنا بتكاليف الدعوة، وزاد الخال مصطفى طيني بلة عندما جلس يقول لي وهو متكئ على الوسادة:
- يا ابن أختي، اخرب بيتك واستر وجهك!
قال أبو النور: إنها مشكلة جدية نعاني منها نحن العرب بشكل خاص يا أبا نزار.
قال أبو نزار بلا مبالاة: أية مشكلة أخي؟
قال أبو النور: مع أنني إنسان غير مدبر، وقد عشت عمري كله غير مكترث بالحسابات المادية وضرورة التوفيق بين الدخل والإنفاق، إلا أنني أرى وجهة النظر التي يطرحها البخلاء على بساط البحث ليست خاطئة تماماً.
قال الخال عمر: هاه! وماذا يطرح البخلاء، طرحهم الله أرضاً؟
قال أبو النور: لي صديق بخيل إلى درجة أنه إذا كان يعاني من ارتفاع الحرارة، ووجد شخصاً بحاجة إلى حريرة واحدة يمتنع عن إعطائها له! هذا الصديق قال لي مرة إن من خرب بيت الأمة العربية وما عاد ثمة أمل بأن تعمر من جديد هو المدعو حاتم الطائي الذي كان يُطعم ما عنده للضيف ويقعد هو وأولاده (على الأرض يا حكم!)، وأنا لست معه في إفراطه في التقتير، ولكنني مقتنع بأن عادة الكرم العروبية المتفلتة من أي انضباط هي عادة سيئة. هل تريدون أن أعطيكم مثالاً حسياً مقنعاً؟
قال أبو الخير: يا ليت.
قال أبو النور: أنا أعرف حق المعرفة أن صديقنا أبو مرداس قد استدان اليوم صباحاً ثلاثة آلاف ليرة سورية، والسبب الرئيسي لذلك هو دعوته إيانا الليلة إلى العشاء، فماذا لو كنا واقعيين ومنطقيين وعلاقتنا تقوم على الصراحة، وبدلاً من أن يضطر الرجل إلى التمول بالعجز على طريقة العالـم الاقتصـادي جون مينارد كينز يقدم لنا من الطعام أبسطه وأقله كلفة، وفي الوقت ذاته أخفه على المعدة، فنكون نحن من الناس القنوعين الذين لا نحتاج إلى العم أبي عبد الله الجعبي ليصلح بيننا.
فنجر أبو نزار عينيه، وتقدم من أبي النور قائلاً له:
- عفواً عفواً، ماذا قلت أخي؟ طعام بسيط في رمضان؟ وخفيف على المعدة كمان؟ وكأنك تدعوني الآن صراحة إلى أن أضرب رأسي بأقرب جدار!
قال أبو النور: إنني أرأف بالأحوال يا أبا نزار، حسناً، أنا سأعود بك والأصدقاء إلى مستهل حديثي عن الحكم التي يطلقها صاحبي البخيل. لقد تحدث طويلاً عن الضيف والاحتفالات المبالغ فيها التي نجريها نحن أحفاد حاتم الطائي له، أخي، هل تستطيع أن تقول لي ما الذي يقدمه الضيف للحياة حتى يقف الناس في خدمته كالخدم؟
حك أبو نزار رأسه بأصابع يده وقال مخاطباً أبا النور: عفواً أخي، هل ستلتزم معنا بجلسات السمر حتى نهاية الشهر؟
قال أبو النور: طبعاً.
قال أبو نزار: أنعم وأكرم، والله إذا كان حاتم الطائي خرب بيت الأمة العربية، أما أنا فلن يخرب بيتي أحد غيرك!
(يعود تاريخ هذه الحكايات إلى ما قبل ربع قرن من الزمان)
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...
مدونات أخرى
26 اغسطس 2024
19 اغسطس 2024
11 اغسطس 2024