لوحات مشوّهة تكشف عنها طالبان
مع ملاحظتي لردودِ الفعلِ في المجتمعات العربيّة، حول قراراتِ حركة طالبان التي تحاول فرض فكرها الأحادي الإلغائي على المجتمعِ الأفغاني ونفي القيمة الإنسانيّة عن المرأة على وجه الخصوص، تشكّلت لديّ رؤى واضحة لمجتمعاتٍ مشوّهة، وكأنّ عقوداً من العملِ الثقافي على زيادة الوعي بالقيمة الإنسانيّة للفرد، وأهميّة الدولة المدنيّة كانت عقوداً من اللعب والعبث. إذ ما زالت الأفكار الرجعيّة المستمدّة من تراثٍ أسود متأصّلةً داخلَ النفس العربيّة. وفي حين يرفضُ الفرد العربي العيشَ ضمن هذه القوانين، ولو فرضت عليه لحاول التملّص منها، إلّا أنّه في الآن ذاته لا يمتلك الجرأة لرفضها عند وقوعها وتطبيقها على غيره. وطالما أنّه في مأمنٍ منها، وفي بقعةٍ جغرافيّة مختلفة، فإنّه سيقدّمُ لها الدعمَ اللازمَ ليكونَ بريءَ الذمةِ اتجاه معتقداته. فهذه القدسيّة الدينية المُعطاة للقوانين جعلت من الصعب بمكان امتلاك جرأةَ المساس بها.
وقد ساعدت الأنظمة القمعيّة على ذلك من خلال زرع الخوف من التعبير عن الذات، داخل نفوس مواطنيها. وبالتالي، فإنّ الأنظمة القمعيّة لن تنتجَ شعوباً حرّة، إنّما شعوباً خائفةً، راضخةً، للسلطتين الدينيةِ والسياسية، ويغيب عن عقلها (الشعوب) مفهومُ النقد والحريّة. وقد انعكس هذا الأمر على تعامل الأفراد بعضهم بين بعض أيضًا، فأصبحت المجتمعات أكثر تسلّطاً وانغلاقاً من السلطاتِ السياسيّة ذاتها. وبات الفرد العربي يرفضُ اتخاذَ موقفٍ قد يضعه موضعَ اتهامٍ أمام واحدة من ثلاث سلطات، وهي:
أولاً، السلطة الدينيّة، وهذه على رأس قائمة الخوف لديه، ذلك أنّها نجحت بالدخول إلى صميم النفس لتمارسَ رقابةً داخليّة، فيكون شعور الخوف لدى الإنسان تحت وطأةِ وازعٍ داخلي لا يفارقه، وشعور بالخطيئة نما عبر الزمن وتأصّل في النفس العربيّة. فمهما بلغ البعدُ بين الفرد ومعتقداته الدينيّة إلا أنّه داعمٌ حقيقي للأفكارِ التي ينصُّ عليها أربابُ هذه السلطة. والثانية هي السلطة المجتمعيّة، وهذه تلي الأولى أهميّةً، فأفرادُ المجتمعِ هم أدواتٌ للسلطة الدينيّة ويتصفون بالوحشيّة والحدّة، وتتفرّدُ السلطة المجتمعيّة بقدرتها على إلزام المخالفين لها بالرضوخ لأفكارها، ولو ظاهرياً.
ما زالت الأفكار الرجعيّة المستمدّة من تراثٍ أسود، متأصّلةً داخلَ النفس العربيّة
وثالثاً، السلطة السياسية، وهي التي نجحت محاولاتها في تطويع السلطةِ الدينيّة لفتراتٍ، بما يخدمُ مصالحها ويهذّبُ معارضيها ويخدّرُ شعوبها، إلّا أنّ هذا النجاح لم يكُن آمناً ولن يكون يوماً. إضافةً لوجود اتفاقٍ ضمنيٍ بين الأنظمةِ القمعية على التضييق على معارضيها، حتى لو اختلفت تلك الأنظمة سياسياً بين بعضها.
هناك محاولات قليلة في البقعة العربيّة لتقويض تأثير السلطة الدينيّة، لكنّ هذه المحاولات ما زالت في طور نموّها، وتفتقرُ للجدّية. فخلال قرن مضى بين المدِّ والجزر للخطاب الديني، تمادت الأنظمةُ العربيّة في استغلاله لصالحها ولتحقيق مصالحها، فتمكّن الخطاب الديني من تقويّة جذوره السياسيّة في العقل العربي، وأصبحَ تدارك هذا التأثير بحاجةٍ لجهود جدّية غير متردّدة.
قد يختلف مفهوم الحريّة حسب المكان والزمان والوعي المُنتج له، فيكون الإنسان أكثرَ جنوحاً للحريّة مع تزايدِ وعيه بحقيقته كإنسان حرِّ الإرادة. لكنّ من غرائبِ هذا العالم ألّا يمتلك الفردُ رؤيةً عن إنسانيّته وما يترتبُ عليها.
ثمّة حالة من انعدام الشخصيّة يعيشها الفرد في المجتمع العربي، جعلته مُسيّراً وفقاً لإيديولوجيا زُرِعت في تكوينه النفسي على مدى قرون، وجعلته مفتقراً لشجاعة اتخاذِ قرارٍ حر. وكونه لُقِّن أنّ الدولة المدنيّة القائمة على العدالة والمساواة هي منتجاتٌ غربيّة، غايتها تمزيقُ مجتمعه الإسلامي العربي، فإنّه لن يستطيعَ دعمَ تلكَ الحقوق، حتى وإن تمّرد عليه وعيه واقتنع بأهميتها، وذلك خوفاً من عقاب القطيع له. وبهذا إشارة للإرهاب النفسي والفكري الذي فرضته الإيديولوجيا الدينية على المجتمعات، ومؤشّر لمدى خطورة الداعمين لهذا الفكر إيماناً واعتقاداً به، والداعمين له دون وعيٍ بخطورته وانحطاطه، وهُم الأغلبية والأكثرَ خطورةً على المجتمع. وعندَ أوّل فرصةٍ سانحةٍ لظهور هذه القوى سيتضح أنّ جميعَ الخطى نحو المدنيّة العربيّة هي محض وهم، ما لم يتم العمل على ردف الوعي الإنساني وبذلِ جهودٍ أكبر لتهذيبه من أشواك التراث المؤدلج وتعظيم قيمة الحريّة والتعبير عن الذات ضمن إطار التغيير السياسي.
هناك محاولات قليلة في البقعة العربيّة لتقويض تأثير السلطة الدينيّة، لكنّ هذه المحاولات ما زالت في طور نموّها، وتفتقرُ للجدّية
شعورُ الخيبةِ قاسٍ، وأنت ترسمُ في مخيّلتك مستقبلاً مُزهراً لمجتمعك، ولكن يوماً بعد يومٍ، تزدادُ يقيناً أنّ الغدَ المُزهرَ ما زال بعيداً، تشعر بهذا وأنت تحاور صديقك أو جارك بهندامه الأنيق ولسانه المتحضّر، إذ تكتشفَ شخوصاً همجيّةً تعيش داخله، شخوصاً تؤيّد نصب المشانق للفراشات وقطع حناجرِ الحساسين. وهناك أيضًا من لا يسوؤه أن تُمنع امرأةٌ من الكلام لأنّ في صوتها فتنة. إذن، تكمن الخيبةُ في الوهم الذي نقتاتُ عليه، وهم أنّنا نجحنا في أن نكونَ بشراً.
يذكرني هذا بتحليل سيغموند فرويد لحالاتِ الاكتئاب الطارئة على المجتمع الأوروبي إبان الحرب العالميّة الثانية، فوَصَفَ السبب بمختصره بأنه "زوال وهم الحضارة"، أي أنّ المجتمعات الأوروبية كان قد ترسّخ لديها فهمٌ بأنّها مجتمعاتٌ متحضرةٌ، فكانت وحشية تلك الحرب دليلاً على فهمهم الخاطئ لأنفسهم. فهل يحتّم علينا اليوم التأييد، ولو الضمني، لواحدةٍ من سلوكيّات طالبان، السؤال عن مدى فهمِنا لأنفسِنا؟