لماذا اختفى البطل القبطي من شاشتنا؟ (3 من 5)

21 ديسمبر 2021
+ الخط -

في فيلم (حرب الفراولة) قدم المخرج خيري بشارة والكاتب مدحت العدل مشهداً ساخراً يظهر فيه أبطال الفيلم محمود حميدة ويسرا وسامي العدل متنكرين في زي قساوسة وراهبة عند سرقتهم لبنك بحثاً عن السعادة، ويصطحبون معهم الحاجة والدة محمود التي تقوم بدورها أمينة رزق، وتنفجر السينما بالضحكات عندما تسأل أمينة رزق، وهي ترتدى ملابس راهبة، أحد موظفي البنك: "ما فيش سجادة هنا عشان ألحق أصلي العصر"، لكن المشهد أثار انتقادات حادة من بعض حضور ندوة الفيلم التي عقدت بعد عرضه في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي.

قال لي مؤلف الفيلم د. مدحت العدل تعليقاً على ذلك: "كانت فكرة الفيلم أن يتنكر الأبطال خلال سرقة البنك في زي ديني، يعني إما زي شيوخ أو قساوسة، وأنا مسلم وصديقي المخرج خيري بشارة مسيحي، فقلت له إن زي المشايخ مألوف ظهوره بشكل كوميدي لطيف في أفلام كثيرة في الستينات، خاصة زي المأذون، لكن الجديد هو زي القسس والرهبان، وأعجب خيري بالاقتراح، ولم يعترض أحد على المشهد حتى الكنيسة، ومع الأسف هوجمت أنا وخيري في  ندوة الفيلم من متحدثة مسيحية المفروض إنها تكون فاهمة في السينما، ورد عليها خيري وأفحمها وقال لها: إشمعنى نسمح بظهور المشايخ بشكل كوميدي في الأفلام والرهبان والقساوسة لأ".

يضيف خيري بشارة معلقاً: "طبعا لم أجد أي مشكلة في تقديم هذا المشهد، لأن رجل الدين ليس إلا بشرا، والأفلام القديمة إذا كانت تقدم المأذون بصورة فكاهية فما المانع من عمل ذلك مع القسيس؟ طبعا في ناس بتزعل، لكن أنا لا يعنيني ضيقو الأفق أو من يفهمون الحياة بشكل سيئ وغبي، فلن تتحسن نظرة هؤلاء أبداً، ولا ينبغي أن نراهن عليهم أو نهتم بآرائهم، وأعتقد أننا محتاجين إلى المزيد من الجرأة في تناولنا لشخصيات رجال الدين، سواءً مسلمين أو مسيحيين".

نفس المعنى أكد عليه بطل الفيلم محمود حميدة، الذي قال لي إنه لم يجد أي حرج في أداء ذلك المشهد الطريف، وأنه لا يتوقف عادة عند هذه التفاصيل الخاصة بدين الشخصية التي يلعبها، ولذلك رحب بفيلم فايز غالي حين عرض عليه، ولم يقل له لماذا لا تختار ممثلا مسيحيا ليلعب الدور، وأضاف محمود حميدة قائلاً: "أعتقد يمكن بعض النجوم بيكون عندهم حساسية في النقطة دي بسبب الوضع العام للبلد اللي بيوجد فيه ناس على الجانبين محرضين على العداء والتوتر، وده موجود في العالم كله، لكن إحنا كفنانين بالتحديد لازم نزيل هذه الحساسيات بشكل كامل واحنا بنشتغل".

الإرهابي والقبطي

من أبرز الأفلام التي أبرزت مؤخراً حضور المواطن القبطي/المسيحي في المجتمع المصري، فيلم (الإرهابي) للكاتب لينين الرملي والمخرج نادر جلال والنجم عادل إمام، والذي قدم نموذج زوجة قبطية متشددة، لعبت دورها باقتدار ماجدة زكي، تهدد زوجها الذي لعب دوره باقتدار أكبر مصطفى متولي، بأنها ستهاجر إلى أميركا إذا لم يترك عمله في مصنع البيرة، كما أنها تتعامل بتشدد مع التليفزيون، بينما زوجها يرتبط بصداقة وثيقة مع جيرانه المسلمين الذين يختبئ لديهم إرهابي يعجب بطيبة الزوج القبطي وأخلاقه الحسنة وسلوكه المنضبط، إلى حد أنه يبدأ في تجنيده ظناً منه أنه مسلم ملتزم، لكنه فجأة يكتشف أنه مسيحي، فيبدأ في معاملته بحذر.

حين سألت الكاتب الكبير لينين الرملي عن اختياره تقديم هذه الشخصية قال لي: "حاولت أن ألفت النظر إلى أن التشدد مرتبط بالشخصية نفسها وليس بالدين، وإذا كان لدينا جماعة إسلامية متطرفة مثل جماعة التكفير والهجرة، نقدر نقول إن شخصية الزوجة هنا هي هجرة من غير تكفير، فهي تهدد زوجها بالهجرة طول الوقت، وقد استوحيت هذه الشخصية من تجارب شفتها في الواقع، فبعض الأقباط مثلا يعتبرون الزواج الثاني بعد الطلاق زنا، لكن عندما عرض الفيلم لم يثر حفيظة الأقباط كما كان البعض يعتقد، بل في ندوات كثيرة حضرتها ووجهت أسئلة متكررة تقول ليه عملت شخصية القبطي مثالية وأفضل من المسلم، والذين سألوا اعتقدوا إني مسيحي، وطبعا دي مسألة تعرضت لها منذ أن بدأت العمل ككاتب، وهؤلاء تناسوا تقديمي لشخصية الزوجة المتشددة، لكن في الحقيقة هؤلاء كانوا قلة، وأغلب الجمهور أعجب جداً بالمعالجة التي تم تقديمها".

ضيوف شرف

لا أريد أن تتصور من ذكر نماذج الأعمال التي ظهرت فيها شخصيات قبطية وأثارت الجدل، أن هناك عدداً كبيراً من هذه الأعمال في السينما والدراما المصرية، فالمؤسف أنك تستطيع أن تعد على أصابع يديك الأفلام التي ظهرت فيها شخصيات قبطية محورية أو تلعب دوراً مهماً في الأحداث خلال الـ25 سنة الماضية، بل ويمكن أن تعد على أصابع يديك وقدميك الأفلام التي ظهرت فيها شخصيات قبطية رئيسية في تاريخ السينما المصرية كله.

الغريب أنك ستجد هذه الظاهرة في سينما الثمانينات والتسعينات التي خفّت فيها قبضة الرقابة بصورة كبيرة، وبرغم ذلك ستظهر الشخصيات القبطية في عدة أفلام لتلعب أدواراً محدودة وغير رئيسية، حتى وإن تم تقديمها بصورة جميلة فنياً، مثلما حدث في فيلم (ضحك ولعب وجد وحب) للمخرج طارق التلمساني، والذي كتبه المخرج مجدي أحمد علي، وقدم من خلاله قصة حب يخوضها شابان مسيحيان، وأشار في مشهد جميل إلى قصة ظهور العذراء سنة 1968، وكيف التف المسلمون والمسيحيون حول تلك الحكاية التي اعتبرها البعض تعويضاً نفسياً للمصريين عن هزيمة 67.

حين سألت مجدي أحمد علي عن تجربة ذلك الفيلم، قال لي إنه مأخوذ من ذكريات نشأته هو وطارق التلمساني، "كان لنا أصدقاء مسيحيون، وكان للقسس عندنا قدسية المشايخ نفسها، وكان المصريون بالذات في الأرياف يحضرون موالد العذراء والقديسين، مثل موالد الأولياء التي يحضرها المسيحيون، كان هناك حلم قومي كبير يجمع المصريين، ولذلك لم تظهر التوترات إلا في فترات التردي، وفي فيلمنا (ضحك ولعب وحب)، وفي فيلمي (البطل) الذي قدمت فيه شخصية بيترو ووالده غطاس، كنت حريصاً على طرح ما أريده عن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين ببساطة من غير كلام كبير فى السياسة وخطب، يجب ألا نتعامل وكأن على رأسنا بطحة، لأن الشعب المصري سيظل متماسكاً مهما حدث".

كانت العائلة القبطية قد ظهرت من قبل في أفلام السيرة الذاتية للمخرج الكبير يوسف شاهين (إسكندرية ليه- حدوته مصرية- اسكندرية كمان وكمان)، لكن ظهورها كان أكبر وأعمق في فيلمه (إسكندرية ليه) الذي كتبه السيناريست الكبير محسن زايد، والذي قال لي إنه لم يواجه أي مشكلة في كتابة خصوصية العائلة المسيحية: "لأني كنت حريصا دائما في أعمالي على إدخال هذا الأمر ضمن نسيج درامي محكم وبتمحيص شديد مش مجرد ظهور اسم قبطي وخلاص زي ما بيحصل في بعض الأعمال، والحقيقة يبدو أن حساسية الكلام في الفتنة الطائفية من الرقابة والمجتمع تبعد الكتاب عن هذا الموضوع، خاصة مع قلة كتاب السيناريو الأقباط، ولو أني أعجبت بأسلوب ناجي جورج جداً في فيلم كلام في الممنوع، وأتمنى تكون دي بداية لحدوث تغير في طريقة تقديم الشخصيات القبطية في السينما والدراما التلفزيونية".

في فيلم (اسكندرية ليه) كان يفترض أن نرى مشهداً مهماً للطفل يوسف وهو يحرق عروسة المسيح وهو يلعب، وبعد سنوات تأتى جدته العجوز لتعنفه قائلة: "أخوك مات عشان انت حرقت المسيح"، والغريب أن الرقابة حذفت مشهد حرق العروسة وتركت مشهد تعنيف الجدة، لأنها رأت أن المشهد الأول سيثير مشاكل طائفية، وعندما طلبت من المخرج الكبير يوسف شاهين أن يعلق على هذه النقطة قال لي بعصبية: "أفضل الابتعاد عن هذه الدوائر المعفنة المتخلفة والابتعاد بشدة عن كل ما هو عنصري"، وبدا أنه يتعامل مع هذه النقطة بحساسية مفهومة بالطبع، وهو ما وجدت له تأكيداً في حوار كان قد أجراه مع الناقد الراحل سمير نصري عقب فيلم (حدوتة مصرية) قال فيه: "المسيحية جزء من حقيقتي.. وأثرت في حياتي وتصرفاتي أحيانا، سلبيا بتوليد مركبات ذنب ومخاوف.. عشت في وسط مجتمع إسلامي ولم يشكل ديني أي عائق، وحتى لو قذفت من آن لآخر بكلمة خواجة فذلك من جراء لكنتي ونجاحي فى الخارج، لو اليوم هناك مسلم لا يرغب في قبولي لأنني ولدت مسيحياً فأنا أقول له أنه لا يعنيني ولا أريد أن أضيع وقتي معه".

في بعض أفلام المخرج الكبير رأفت الميهي، ستجد أيضاً حضورا لافتاً لبعض الشخصيات القبطية، لدينا مثلا شخصية الخالة دميانة في فيلمه الجميل (للحب قصة أخيرة)، الذي قدم فيه مشهد وفاة الخالة دميانة وجنازتها بالطقوس المسيحية، مبرزاً كيف كان سكان جزيرة الوراق في الفيلم يعتبرونها بمثابة أم لهم، وهو مشهد اعتبره بعض النقاد محور ارتكاز الفيلم. وفي فيلمه الأكثر نجاحاً جماهيرياً (سيداتي آنساتي)، قدم الميهي مشاهد طريفة لزواج الأم العجوز تريزا من شاب صغير لعب دوره ببراعة أشرف عبد الباقي، وقدم تفاصيل طقوس زواجهما في الكنيسة، وهو الزواج الذي ألهم أبطال الفيلم أن يغيروا حياتهم بشكل ساخر مليء بالدلالات.

...

نكمل غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.