لعبة التنابز بالفيروسات

18 فبراير 2021
+ الخط -

منذ أن أصدرت منظمة الصحة العالمية بياناً رسمياً في فبراير 2020 تعلن فيه إطلاق اسم (كوفيد 19) بشكل رسمي على الفيروس الذي كانت الصحف ووسائل الإعلام قد تعودت أن تطلق عليه اسم (فيروس كورونا المستجد)، لم يتوقف كثيرون عند تلك التسمية العلمية، بدءاً من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب ووصولاً إلى الكثير من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي الذين فضلوا استخدام اسم (الفيروس الصيني) أو أحياناً (فيروس ووهان) نسبة إلى المدينة الصينية التي سُجّلت فيها أول حالات الإصابة بالفيروس، لينضم هؤلاء إلى آخرين سبقوهم عبر التاريخ في لعبة تبادل الاتهامات أو التنابز بالفيروسات بين الشعوب، وهو ما رصدته مجلة LAPHAM’S الفصلية الأمريكية في أحد تقارير عددها المتميز الذي خصصته للحديث عن الأوبئة.

بدأت المجلة تقريرها بالإشارة إلى كلمة (الأنفلونزا)، الكلمة التي استخدمها الإيطاليون في البداية لتصف جميع أنواع الأمراض المرتبطة بالأوبئة، ثم توسع استخدامها في القرن السابع عشر، ودخلت إلى نطاق الاستخدام في اللغة الإنجليزية عقب وباء قال بعض المختصين إنه انتشر في إنجلترا قادماً من إيطاليا، وبدلاً من وصفه كالعادة بأنه Flu تم وصفه بأنه INFLUENZA لترتبط تلك الكلمة بعدها بأعراض الزكام والرشح والحرارة وما شابهها، وتصبح كلمة عابرة للدول والقارات.

في 1889 انتقلت تهمة نشر الإنفلونزا من الطليان إلى الروس، حين شهدت مدينة سانت بترسبرج انتشار سلالة خبيثة من الأنفلونزا، سرعان ما انتقلت إلى العديد من المدن الروسية ثم ضربت أوروبا، لتحمل لقب (الأنفلونزا الروسية) في كل التغطيات الصحفية بدءاً من الأخبار والمقالات ووصولاً إلى بعض الصحف الساخرة التي نشرت "دعابات تفتيسية" من نوعية أن مواطناً بريطانياً التقط الأنفلونزا من دب روسي ونقل تلك الهدية إلى بريطانيا.

في عام 1918 والعام الذي يليه ارتبطت الأنفلونزا بشعب جديد، حين حملت اسم (الأنفلونزا الإسبانية)، برغم أن تقارير طبية رصدت ظهورها في قاعدة عسكرية أمريكية بمدينة كانساس، قبل أن ينتقل أفراد من تلك القاعدة إلى أوروبا للمشاركة في الحرب العالمية الأولى، لكن الوباء حمل اسم (الأنفلونزا الإسبانية) لأن الصحف الإسبانية كانت وقتها الوحيدة التي لا تخضع للرقابة في زمن الحرب، ولذلك كانت تقوم بنشر أدق تفاصيل الوباء المتفشي في أوروبا، فدفع الشعب الإسباني ثمن تلك الحرية الإعلامية، حين ارتبط وباء الأنفلونزا باسمه، قبل أن يحمل الصينيون الشعلة مع ظهور فيروس كوفيد 19 في عام 2020 ولكن مع غياب الحريات الإعلامية طبعاً.

من بين الأمراض التي رصد تقرير المجلة ارتباطها بأسماء بعض البلدان والشعوب مرض English Sweating Sickness أو مرض التعرق الإنجليزي

قبل الأنفلونزا بسنوات طويلة بدأت فكرة ربط الوباء بمنطقة معينة مع مرض الحمى الصفراء الذي ينتج عن عدوى ينقلها البعوض ويحدث بسببه فشل في وظائف الكبد ينجم عنه اصفرار في الجلد يصيب حوالي 15 في المئة من المصابين بالمرض الذي يرجح أنه انتقل إلى العالم الجديد من غرب أفريقيا مع السفن التي نقلت العبيد المختطفين من أفريقيا، وحين ظهرت في عام 1640 أول حالات الوفاة بالمرض بشكل وبائي في جزيرة باربادوس في المحيط الأطلنطي والتي كانت وقتها مستعمرة بريطانية، قرر البريطانيون إطلاق اسم الجزيرة على الحمى الوبائية، ليحمل المرض اسم الجزيرة لمدة عقود، برغم أنه انتشر بعيداً عنها بآلاف الأميال، وهو ما تكرر في عام 1793 في ولاية فيلاديلفيا الأمريكية حين شهدت انتشار تلك الحمى بصورة مفزعة نتج عنها العديد من الوفيات في صفوف المهاجرين القادمين من مقاطعة PALATINE في ألمانيا، ليطلق اسم المقاطعة الألمانية على تلك الحمى لفترة من الزمن، مع أن الذين أصيبوا بها غادروا ألمانيا وعبروا الأطلنطي، لكن فكرة رمي البلاء على مكان بعيد بدت أكثر راحة ومنطقية.

حدث ذلك أيضاً مع مرض التيفود TYPHUS الذي ينتقل إلى الإنسان من القمل والبراغيث والعث والقراد، ويزداد انتشاره في الأماكن المزدحمة القذرة والتي لا تتعرض للتعقيم، ولذلك كان يطلق على الحمى التي تنتج عنه أسماء مثل (حمى المعسكرات ـ حمى السجون ـ حمى الحرب)، لكن ذلك لم يمنع البعض من أن يطلق عليه في القرن السادس عشر اسم (الحمى المجرية) بعد أن تفشى المرض في معسكرات جيش الإمبراطور الروماني تشارلز الخامس أرشيدوق النمسا الذي كان يعسكر وقتها في المجر قبل توجهه للقتال مع العثمانيين، ليقتل المرض حوالي ثلاثين ألف جندي في عام 1524، ويطلق البعض عبارة (المجر مقبرة الألمان)، والتي عادت لتتردد في الذاكرة الجمعية بعد ثلاثة قرون من إطلاقها لأول مرة ولكن لأسباب أخرى.

في عام 1850 وبعد أن تعرضت أيرلندا للمجاعة التي اشتهرت باسم (مجاعة البطاطس)، والتي أجبرت الملايين على التكدس في المصانع والمناجم للعمل في ظروف مزرية، انتشر مرض التيفود بسبب ذلك التكدس في أماكن قذرة لا تتعرض للتعقيم، وحين هاجر بعض المصابين بالمرض إلى إنجلترا، لم يتم اتهامهم فقط بنشر الوباء في إنجلترا، بل تم إعادة تسمية المرض ليحمل اسم (الحمى الأيرلندية).

ستجد لعبة رمي البلاء أيضاً فيما يتعلق بفيروس RUBELLA سريع الانتشار والذي تم اشتقاق اسمه من كلمة ruber اللاتينية والتي تعني (أحمر) إشارة إلى لون الطفح الجلدي الذي يتركه على سائر أنحاء الجسد، لكن ذلك الاسم توارى عن الأذهان، ليشتهر المرض الذي يسببه الفيروس باسم الحصبة الألمانية بدءاً من القرن الثامن عشر، والغريب أنه حمل ذلك الاسم ليس لأنه انتشر في ألمانيا، بل لأن من اكتشفه كان العالم الألماني فريريدش هوفمان الذي قام بتشخيصه لأول مرة في عام 1740، والمثير للضحك أن المشاعر المعادية للألمان التي انتشرت في أمريكا في الحرب العالمية الأولى دفعت بعض الأطباء والصيادلة الأمريكان إلى المناداة بتغيير اسم المرض، فقرر البعض في عام 1917 أن يطلقوا عليه اسم (حصبة الحرية)، لكن ذلك الاسم لم يصمد أمام متانة اسم (الحصبة الألمانية).

اكتشف علماء الأوبئة في عام 1976 فيروساً خطيراً يسبب الحمى والإسهال والنزيف أحياناً ويؤدي للإضرار بالجهاز المناعي، فقرروا تسميته Yambuku virus باسم القرية التي تم اكتشافه فيها

من بين الأمراض التي رصد تقرير المجلة ارتباطها بأسماء بعض البلدان والشعوب مرض English Sweating Sickness أو مرض التعرق الإنجليزي إن صح التعبير والذي ينتج عن سلالة شرسة من الفيروسات الخطيرة تنتقل عبر القوارض، وقد ظهر للمرة الأولى في إنجلترا عام 1485 ولذلك التصق اسم إنجلترا بالمرض برغم أنه ظهر بعد ذلك في كل من ألمانيا وفرنسا، وهو ما تكرر مع العدوى البكتيرية المعروفة باسم الـ Anthrax أو الجمرة الخبيثة والتي تصيب كلا من البشر والماشية بأمراض خطيرة، حيث ظلت تعرف لسنين طويلة باسم (الطاعون السيبيري) منذ أن ظهرت أول حالاتها في سيبيريا في القرن الثامن عشر.

وفي حين فقدت سيبيريا مع مرور السنين ارتباطها بالجمرة الخبيثة، ارتبطت منطقة غرب النيل باسم الفيروس الذي ينقله البعوض والذي تم اكتشافه فيها لأول مرة عام 1937، مع أنه اكتشف في أحد مناطق أوغندا، لكن مكتشفيه قرروا إطلاق اسم منطقة غرب النيل بأكملها عليه، مع أنه حين انتقل إلى أوروبا في منتصف تسعينات القرن العشرين لم ينتقل عبر المهاجرين الأفارقة بل عبر نوع من الطيور المهاجرة.

بنفس الطريقة ظلت منطقة Lyme في ولاية كونيتيكيت الأمريكية مرتبطة بالمرض الذي ظل يحمل اسمها منذ عام 1975 حين تم اكتشاف مجموعة من الحالات المصابة بأعراض الطفح الجلدي والحمى والصداع والتعب، بعد تعرضهم للدغات من حشرة قراد، ليثبت أن التأخر في العلاج قد ينشر العدوى البكتيرية إلى المفاصل والقلب والجهاز العصبي، ومع أن السجلات الطبية المكتوبة في القرن الثامن عشر تثبت أن ذلك المرض ربما تعود أصوله إلى اسكتلندا، إلا أن اسم منطقة Lyme ظل ملتصقاً به حتى الآن.

بعد عام من اكتشاف مرض Lyme اكتشف علماء الأوبئة في عام 1976 فيروساً خطيراً يسبب الحمى والإسهال والنزيف أحياناً ويؤدي للإضرار بالجهاز المناعي، فقرروا تسميته Yambuku virus باسم القرية التي تم اكتشافه فيها لأول مرة، لكنهم خافوا من أن يتسبب لهم ذلك في حالة من العداء مع سكان القرية فيعيق قدرتهم على التعامل مع الفيروس، لذلك قرروا تسميته Ebola على اسم أقرب نهر من القرية التي تقع في جمهورية الكونجو الديمقراطية.

وصلت حالة تبادل الاتهامات "ورمي البلا" إلى أقصاها في حالة أحد الأمراض المنقولة جنسياً والذي أصبح يُعرف باسم (السفلس syphilis) منذ أطلق عليه الشاعر جيرولامو فراكاستورو ذلك الاسم في عام 1530، وربما لم يكن غريباً أن يتم اللجوء إلى شاعر لإطلاق اسم على مرض مرتبط باللذة، لكن ذلك الاسم لم يتم اعتماده بسهولة للمرض الذي يرجح أنه جاء إلى أوروبا مع بعض أبنائها الغزاة القادمين من مستعمرات العالم الجديد، فمنذ أن ظهرت أول حالة انتشار وبائي للمرض في عام 1495 في صفوف القوات الفرنسية التي كانت تحتل مدينة نابولي الإيطالية، انتقل المرض بعدها إلى أوروبا وآسيا عبر طرق التجارة.

وقبل أن يصبح المرض مشهوراً باسم (السفلس)، ظل المرض يحمل في كل بلد اسماً يربطه بالشعب المجاور، ففي روسيا كانوا يطلقون عليه (المرض البولندي)، وفي بولندا كانوا يطلقون عليه (المرض الألماني)، وفي ألمانيا كانوا يطلقون عليه (المرض الأسباني)، وفي البرتغال كانوا يطلقون عليه (المرض البرتغالي)، في حين كان السريلانكيون يسمونه (المرض البرتغالي) لأنه جاء بصحبة الجنود البرتغاليين، أما في إنجلترا فقد كانوا يوزعون مسئوليته بين فرنسا وإسبانيا، وفي حين كان الإيطاليون يسمونه (المرض الفرنسي) لأنه ارتبط بالجنود الفرنسيين القادمين لاحتلال نابولي، كان الفرنسيون يسمونه (المرض النابوليتاني)، وفي اليابان كان يطلق عليه اسم (القروح الصينية)، لكن الصينيين لم يردوا التهمة لليابانيين بل أطلقوا عليه (التهابات جوانجدونج)، في حين قرر الإيرانيون أن لا يربطوا المرض بدولة أوروبية واحدة فأطلقوا عليه اسم (المرض الأوروبي)، أما الأتراك فقد قرروا إدخال البعد الديني في المسألة وأسموه (المرض المسيحي)، أما في مصر فقد قررنا أن نسميه (المرض الأفرنجي) وفي أقوال أخرى (المرض البرّاني)، لأنه مثل كل المصائب والآفات يأتينا رغماً عنا من بلاد برّه.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.