سياسة حافة الهاوية ومصادرة قرار الحرب والسلم في لبنان
من البديهي القول إنّ من غير المقبول أن تكون مصلحة لبنان على حساب الشعب الفلسطيني، فلبنان دون رسالة تضامن إنساني ودعم لقضايا الحق والعدل في محيطه وفي العالم، ودون انفتاح على محيطه وعلى العالم، ليس لبنان. ومن واجب لبنان أن يكون، كدولة، ضمن قدراته، من أنشط المدافعين وأشدّ الداعمين سياسيًا للحقوق السيادية وغير السيادية للشعب الفلسطيني بأراضيه المحتلة، وعلى رأسها حقه المشروع بالمقاومة في فلسطين ومن فلسطين، بالإضافة إلى حق العودة.
ومن غير الجائز أن يحقّق لبنان مصالحه، ولا سيما في نيل رضا كثير من الأنظمة العربية والغرب، من خلال الفشخ فوق حقوق الشعب الفلسطيني الذي ما زال بلا دولة، والذي ما زالت أراضيه محتلة بالكامل، والذي يعاني من أسوأ ممارسات احتلالٍ وتمييزٍ عنصري، وحرب إجرامية، وقتل وتهجير. ويلقى ذلك نوعاً من الموافقة الضمنية بين قوى سياسية لبنانية مختلفة، ما عدا ربّما بعض قوى التطرّف الهوياتي والانغلاق التي تريد باسم شوفينية متقوقعة، عزل لبنان عن محيطه وجعله معاديًا له.
ولكن، بالمقابل، من غير المقبول أيضًا أن تكون مصلحة الشعب الفلسطيني على حساب لبنان، ووحدته، وسيادة دولته، وأمنه، وسلامة أراضيه، ولا سيما أنّ لبنان عانى في الماضي من حرب أهلية طويلة ومدمرة، هدّدت كيانه ووجوده، وانطلقت بسبب انقسام اللبنانيين حول السلاح الفلسطيني في لبنان، وحول مسألة تحرير فلسطين من لبنان.
اليوم، المشكلة في هذا الخصوص تحديدًا، أنّ حزب اللّه قد افتتح، مع ملحقاته المسلحة، اللبنانية وغير اللبنانية، منذ عملية طوفان الأقصى، حرب "مشاغلة" من لبنان، محوّلًا جبهة جنوب لبنان إلى جبهة مساندة بحدّة توتر متصاعدة، مع احتمال انزلاقها إلى حرب مفتوحة. يستثمر الحزب، ومن ورائه، في سياسة حافة الهاوية بذريعة وحدة الساحات نصرةً لغزة، وفي ذلك إمعان في احتكار (كي لا نقول سلبطة) لقرار الحرب والسلم في البلد بطريقة غير شرعية، وفي تقويض سيادة الدولة اللبنانية.
اللوم يجب أن يوجّه لحزب الله وملحقاته، لا إلى من يعترض على مصادرة الحزب لقرار الدولة في الحرب والسلم
وتأخذ محاولات تبرير ذلك أوجهًا متعدّدة، نذكر منها ثلاثة رئيسية.
من جهة أولى، أصبحت بعض الأوساط، ولا سيما ضمن الطائفة السنية التي كانت في السنوات الأخيرة، ولا سيما بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، من أشرس المدافعين عن ضرورة حصر السلاح بيد الدولة، تتلطى خلف غياب الدولة لتبرير مزيد من غياب الدولة ومن انتهاك لسيادتها، في ردّة لأدبيات ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية التي كان قد أجرى فيها السُّنة نقدًا ذاتيًا، ولا سيما ضمن 14 آذار. وأصبحت بعض هذه القوى تتبنى خطابًا يقترب كثيرًا من خطاب الممانعة في لبنان، إن لم يكن طبق الأصل عنه. من غير المقبول جرّ اللبنانيين السُّنة نحو خيارات تناقض الوجدان اللبناني السنّي المتمسّك بسيادة الدولة اللبنانية، ونحو الانضواء عملياً في محور هو خصمهم الأول في لبنان وفي الإقليم، وما فعله هذا المحور بالشعب السوري خير دليل على ذلك.
من جهة أخرى، يتذرع البعض بمنطق "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" البائد للقول إنّ الوقت ليس مناسبًا الآن لطرح المسائل الخلافية، بل هو وقت للتضامن الوطني لمواجهة خطر الحرب، وللتضامن الإنساني مع أهل الجنوب. ومن الملاحظ أنّ هذا المنطق المتستر بـ "الأخلاقويات" الحميدة أصبح ينخر حتى في الأوساط التي تدّعي "المدنية" (كم أسقطتِ من أقنعة يا غزّة!)، وذلك غالبًا من باب التزلف للحزب المهيمن على البلد وتبرير الخضوع له.
قد غاب عن هؤلاء أنّه، من جهة أولى، حزب اللّه هو الذي يحتكر قرار الحرب والسلم في البلد ويضع بذلك اللبنانيين أمام الحرب كأمر واقع في كلّ مرّة، وليس العكس، فاللوم يجب أن يوجّه للحزب وملحقاته، لا إلى من يعترض على مصادرة الحزب لقرار الدولة في الحرب والسلم. ليس على باقي اللبنانيين الانصياع لإرادة الحزب في كلّ مرّة إطلاقًا، فمحاولات مصادرة أي رأي مخالف ومدافع عن سيادة الدولة بالذرائع "الأخلاقوية" من قبيل "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" مرفوضة، ومن حق باقي اللبنانيين، لا بل من واجبهم إعلاء الصوت دفاعًا عن سيادة دولتهم بوجه من يصادر بطريقة لا شرعية قرار الحرب والسلم في لبنان. كما غاب عن هؤلاء أنّ التمسّك بسيادة الدولة أفضل وسيلة للتضامن مع كلّ اللبنانيين، ولا سيما مع أهل الجنوب، لأنّ مبدأ السيادة يحمي الجميع.
من جهة ثالثة، وهذا هو غالبًا خطاب قوى الممانعة ومن يدور في فلكها من قوى لبنانية وغير لبنانية في لبنان، لديك من يتذرع بالانتهاكات الإسرائيلية للسيادة اللبنانية، ولا سيما للقرار 1701، وذلك من أجل تبرير مصادرة قرار الحرب والسلم من قبل حزب اللّه، وانتهاكه لسيادة الدولة، ولا سيما لمبدأ حصر السلاح بيده. وهم يستدلون مثلًا باغتيال صالح العاروري في قلب الضاحية على انتهاك السيادة اللبنانية من قبل إسرائيل، ظانين ربّما أنّ باقي اللبنانيين لا يرون هذه الانتهاكات اليومية للسيادة اللبنانية وللقرار 1701 من قبل إسرائيل!
لا يمكن المساواة بين الضحية والجلاد، ولكن السيادة لا تتجزأ، فلا يمكن أن نكون انتقائيين في تطبيق مبدأ السيادة
المضحك المبكي في الأمر، أنّ هؤلاء أنفسهم يغفلون دائمًا، بما لا يخلو من الكثير من الرياء، أنّ حزب اللّه هو الذي افتتح جبهة المشاغلة من جنوب لبنان في 7 أكتوبر، وأنّ حماس/ فرع لبنان، وغيرها، قد أطلقت صواريخ من لبنان في أثناء هذه الحرب، وذلك بعد أن كان القرار 1701 قد أمّن درجة لا بأس بها من الاستقرار، ومن الأمن لفترة طويلة امتدت منذ 2006.
صحيح أنه لا يمكن المساواة بين الضحية والجلاد، ولكن السيادة لا تتجزّأ، فلا يمكن أن نكون انتقائيين في تطبيق مبدأ السيادة. بكلام آخر، لا يمكنك عدم إدانة إطلاق الصواريخ (ولا سيما من قبل حماس/ فرع لبنان) من لبنان، الذي ينتهك سيادة الدولة اللبنانية، ولا سيما مبدأ حصرية قرار الحرب والسلم بيدها، ثم أن تكتفي فقط بإدانة انتهاك العدو للسيادة في ردّه على ذلك (ولا سيما اغتياله للعاروري في الضاحية)، وإلا فستكون قد وقعت في ازدواجية المعايير بالنسبة إلى احترام سيادة الدولة اللبنانية، شبيهة إلى حدّ ما بازدواجية المعايير التي نتظلّم منها، عن حق، عندما يعتمدها الغرب في كثير من الأمور.
بكلام آخر، سيادة الدولة اللبنانية يجب أن تُحترم من قبل الجميع، من القريب ومن البعيد، من الصديق ومن العدو، لأنّ الانتهاك لا يمكن أن يبرّر الانتهاك، لا قبل، ولا بعد، ومهما كانت الجهة التي تقوم به، مع التأكيد، مرّة أخرى، لوجوب عدم المساواة أخلاقيًا بينهما.
أما قرار الرد على انتهاكات إسرائيل للسيادة اللبنانية، فيجب أن يكون بيد الدولة اللبنانية، وبيد الدولة اللبنانية وحدها، متمثلة بمجلس الوزراء، وليس بيد أيّ تنظيم عسكري أو فصيل لبناني أو غير لبناني مهما كانت ولاءاته وانتماءاته، مع التشديد على ضرورة احترام القرارات الدولية من قبل العدو الإسرائيلي ومن قبل لبنان، لما في ذلك من مصلحة للبنان أولًا، ومهما كانت بعض مواقف أميركا أو الدول الأوروبية أو مآربها الخاصة من وراء ذلك.
سيادة الدولة اللبنانية يجب أن تحترم من قبل الجميع، من القريب ومن البعيد، من الصديق ومن العدو، لأنّ الانتهاك لا يمكن أن يبرّر الانتهاك
أما بدعة "قواعد الاشتباك" من جهة، والبيان الوزاري الذي "شرّع" عمل المقاومة من جهة أخرى، فهرطقات في القانون الدولي وفي القانون الدستوري، لا تسمن ولا تغني من جوع، إلا من أراد طمر رأسه بالرمال وتحويل نصرة قضية حق وإنسانية كالقضية الفلسطينية، لمجرّد مادة استثمار سياسي بهدف تحقيق مآرب توسعية أنانية لجهة إقليمية (إيران) على حساب الآخرين، ولا سيما على حساب لبنان، ودولته وسيادتها، ووحدته وأمنه وسلامة أراضيه، وما بقي من اقتصاده، ولتحقيق مزيد من الهيمنة على لبنان وجرّه للانضواء ضمن محور إقليمي بوجه محور آخر، بدل تحييده عن سياسة المحاور، مع العلم أنّ مقابل ذلك كلّه لن يتحقق عمليًا، من جبهة لبنان.
بالمحصلة، طالما لم تدرك القوى السيادية في لبنان بمختلف انتماءاتها الطائفية أنّ خلاصها وخلاص لبنان يكون بالتضافر فيما بينها، ولا سيما أنّ العناوين التي تلتقي عليها أكثر وأهم بكثير من التفاصيل الثانوية التي ممكن أن تفرقها، وذلك بدل أن تغرق، كلّ على حدة، بمشاريع انغلاق هوياتي تهدّد وجود لبنان، أو أن تتبارى فيما بينها على عقد التفاهمات مع الطرف المهيمن على البلد، مباشرة أو عبر حلفائه، فسيبقى وضع البلد من سيّئ إلى أسوأ.