كيف ينتصر الضعفاء؟
سعيد ناشيد
فلسفات القتال الآسيوية، سواء في المجال العسكري أو الرياضي، تتمحور حول الرهان التالي: كيف يمكنك أن تنتصر في معاركك حين تكون ضعيفاً، أي حين يكون خصمك أقوى منك؟
جميع المهارات القتالية التي طوّرها حكماء الصين واليابان، سواء في الإطار الفردي أو الجماعي، في الإطار العسكري أو الرياضي، هي محاولة للإجابة عن السؤال المذكور أعلاه: كيف ينتصر الضعفاء؟
ثمّة قاعدة ذهبية يعبّر عنها الحكيم الصيني القديم سون تزو، بالقول: "تنتصر بسببك، وينهزم عدوك بسببه".
مقصود القول ما يلي: حين تكون ضعيفاً، فإنّك لن تنتصر بسبب قدرتك على استثمار أفعالك، بل بسبب قدرتك على استثمار أفعال عدوك.
يمكن تعميم القاعدة على كلّ مناحي الحياة، طالما الوجود حرب دائمة كما قال حكيم يوناني قديم، هو هيراقليطس. ولأجل ذلك يحتاج الوجود إلى تعزيز القدرات القتالية للضعفاء.
لا توجد قوة غير قابلة للاستنزاف مهما عظمت، لا توجد أجساد غير قابلة للإنهاك مهما قويت، ولا توجد أذهان غير قابلة للتشتت مهما ركزت
لقد وُجد الإنسان في حرب شرسة داخل بيئة معادية، وُجد ضعيفًا بحيث أنّ فيروساً صغيراً قد يدمر جهازه المناعي، وأنّ مخالب صغيرة قد تمزّق جلده، وأنّ تقلّباً مناخياً طارئاً قد يجعله طريح الفراش، وأنّ انزلاقاً مفاجئاً قد يسبّب له نزيفاً في الرأس، وأنّ صدمة عاطفية تافهة قد تصيبه بالسكتة القلبية، فقد (خُلق الإنسان ضعيفا) النساء 28، لذلك يحتاج إلى مهارات قتالية تعوّض ضعفه، وإنّ الناس الأكثر ضعفاً لهم الأحوج إلى تلك المهارات. ذلك أنّ الضعف ليس مبرّراً لمشاعر الأسى والتذمر وسائر أمراض الروح التي تصيب الكثيرين، إنّه مبرّر لتطوير المهارات.
على أنّ أسرار الانتصار تقوم على ثلاث معادلات يمكننا أن نستوحيها من الفلسفات الآسيوية، ويمكننا أن نطبقها في كلّ معاركنا اليومية، أو المعارك التي ننخرط فيها:
المعادلة الأولى، من يستنزف الآخر أوّلاً؟
ينتصر من ينجح أولاً في استنزاف قوة الآخر، إذ لا توجد قوة غير قابلة للاستنزاف مهما عظمت، لا توجد أجساد غير قابلة للإنهاك مهما قويت، ولا توجد أذهان غير قابلة للتشتّت مهما ركزت. هذه القاعدة التي ينبغي أن يحرص عليها الضعفاء، كثيرا ما يضيعونها بسبب مشاعر الأسى والتذمر والعويل والفشل في إدارة الغضب، فيصيرون هم المستنزَفون.
ينتصر من ينجح في تصيّد أخطاء الآخر بسرعة ودقة وهدوء، دون أن يحاول الظهور بمظهر البطولة
المعادلة الثانية، من يثير غضب الآخر أكثر؟
ينتصر من ينجح في إثارة غضب الآخر أكثر. ذلك أنّ من الأخطاء الشائعة والقاتلة الاعتقاد بأنّ الغضب يزيد الجسد قوة. بل العكس تمامًا، ذلك أنّ الهيجان يجعل الجسد خفيفًا في الوزن، ثقيلًا في الحركة، بليدًا في التركيز، فيصير مثل الثور الهائج الذي تستنزفه رشاقة الماتادور قبل الإجهاز عليه في رقصة قاتلة.
المعادلة الثالثة، من يتصيّد أخطاء الآخر أكثر؟
ينتصر من ينجح في تصيّد أخطاء الآخر بسرعة ودقة وهدوء، دون أن يحاول الظهور بمظهر البطولة. الذين يحرصون على الظهور بمظهر الأبطال يموتون أبطالًا بالفعل، لكنهم لا ينتصرون في النهاية. النصر حليف من يركز بهدوء لغاية تصيّد الأخطاء بالكيفية المناسبة، بالسرعة المناسبة، وفي التوقيت المناسب. الانتصار ليس لعبة قوة وعضلات واستعراض للبطولات، بل لعبة تصيد الأخطاء والثغرات.
الهيجان يجعل الجسد خفيفاً في الوزن، ثقيلاً في الحركة، بليداً في التركيز، فيصير مثل الثور الهائج الذي تستنزفه رشاقة الماتادور قبل الإجهاز عليه في رقصة قاتلة
الفارق الذي يمكن أن تصنعه القوة العضلية، أو القوة العددية، أو القوة العسكرية، أو أيّ نوع من أنواع القوة، لم يكن حاسمًا في الانتصارات التي رسمت مسار البشرية، لذلك يظلّ قانون انعدام اليقين هو الذي يحكم الحروب كلّها بصرف النظر عن فارق القوة.
وهكذا أقول لك: انظُر إلى الماء كيف ينساب برشاقة عبر المسارات الأقل مقاومة للانسياب، وكيف يتسرب بسلاسة عبر الثغرات غير المتوقعة، وكيف يخترق أشدّ المواقع صلابة. إنّ ذلك لهو درس كبير للضعفاء في كفاحهم، كدحهم، وإصرارهم على العيش في كلّ الظروف.
"حيثُ أنا ضعيفٌ حينئذٍ أنا قويّ" (الكتاب المقدس).