كيف نعرف تركيا؟ من الأدب أم التلفاز؟
لا يُخفى عليكم أنّ الأعمال الفنيّة المرئية أكثر انتشارًا من الأعمال المقروءة، وأنّ الجمهور، خصوصًا في العشرين سنة الأخيرة، يتأثّر بما يرى أكثر من تأثّره بما يقرأ، ولهذا نرى أعدادًا كبيرة من الجماهير العربية مُلتصقة بالشاشات، وتحفظ أسماء الممثلين الأتراك واحدًا واحدًا. ولن أقول بالطبع، جرب أن تسألهم عن اسم اديب تركي، فأنا نفسي، ومع أنّني أقرأ مذ كنت طفلةً، إلّا أنّني دخلت بوابة الأدب التركي حديثًا، وهذا ما جرى؛
ففي عام 2005، اجتاحتْ حمّى المسلسلات المُدبلجة الشاشات العربية، ومع صغر سني حينها، إلّا أنّني كنت أعتقد أنّها أعمال سخيفة وطويلة جدًا، ربّما لأنّ والدي كان يردّد هذا الكلام، وأنا كنت فتاة ملتصقة بوالدها. ومع تقدّمي بالعمر بقيت أحمل تلك الفكرة عن الفن التركي، والتي انعكستْ على الأدب التركي أيضا. وعلى الرغم من تطوّر قراءاتي إلّا أنّني أبقيت مسافة أمان بيني وبين الأعمال الأدبية التركية، وعلى رأسها أعمال أليف شافاق. ولم أضعف حتى عندما انتشرت رواية "قواعد العشق الأربعون" كظاهرة أدبية، وباتت حديث القرّاء، سواء بالمدح أو الذم، إذ بقيت متأثرة بما رأيته على الشاشات وأطلقت حكمًا مسبقًا على جميع أنواع الفنون والآداب التركيّة.
انهارت دفاعاتي في 2021، أمام رواية "10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب" لأليف شافاق، كان ملخص الرواية جذابًا، وهي التي بدأت بالعثور على جثّة البطلة في حاوية قمامة! ثمّ ركزت على مأساة حياتها كشريطِ ذكرياتٍ يمرّ أمامها منذ لحظة ميلادها، وحتى قتلها. ركّزت الرواية على تفعيل حاستي التذوّق والشم، مما أخذ الوصف الأدبي إلى مستوى أخر، فالكاتب الذي يجيد دمج جميع الحواس هو كاتب مُتقن ويجيد استغلال أدواته كما يجب. بعدها بدأتُ أتصالح مع الثقافة والفن التركيين، وقلت لنفسي ربمّا لديهم شيء أكثر من قصص الحبّ المكرّرة التي حفظناها قبل أن تبدأ.
أحرص دوماً على قراءةِ عملٍ أدبيٍ لكتّاب البلد الذي أنوي زيارته
وكما يقولون "فرطت المسبحة"، وقرأت "مادونا صاحبة معطف الفرو" للكاتب التركي صباح الدين علي، ثم أهداني أحدهم رواية "متحف البراءة" لأورهاب باموق. آه من "متحف البراءة"، ظلمت نفسي حين تأخرت باكتشاف أورهان باموق حتى عام 2024. وتحكي الرواية قصّة حب ملحمية في إسطنبول، قصة حزينة جدًّا، وتتمحور حول أنانيّة البطل واتخاذه لقراراتٍ خاطئةٍ بشكلٍ مستمر. أصبحت الرواية من مفضّلاتي، فأنا أحبّ الأعمال التي تفيض بالمشاعر والشغف، دون أن تنزلق نحو الابتذال في الوقت نفسه. نعم، أحبُّ الروايات التي تجعلني حزينة.
قرأت بعدها لباموق "ذات الشعر الأحمر"، وهي قطعة فنيّة، حول العائلة والعلاقات الغرامية، وعكست الرواية مُنحنيات السياسة التركيّة في ثمانينيات القرن الماضي. برع باموق في توظيف الأساطير اليونانية مثل أسطورة أوديب، والأساطير الشرقية مثل أسطورة رستم وسهراب، ليظهر عمق الصراع بين والد البطل والبطل، وابن البطل والبطل. تبدو الرواية معقّدة قليلاً وهنا ظهرت مهارة باموق.
كانت تجربتي هذه دليلًا في مواجهة كلّ من يجحد الروايات، فأنا لم أعرف تركيا بالفعل إلّا من خلال أدبائها، لا من خلال المسلسلات ولا التاريخ، إذ فتح لي الأدب التركي نافذة على كيف يفكّر الشعب، ما هي مشاعره تجاه الانقلابات العسكرية، كيف تعاطوا مع التحوّل من دولةٍ إسلاميّةٍ إلى دولةٍ علمانية. هناك تفاصيل دقيقة عن منظور الأفراد للأحداث المحليّة والعالمية، منظور لا نسمع عنه في نشرات الأخبار أو الأفلام الوثائقية، ولا يدوّنه المؤرخون، فمن سيهتم كيف تعاطت الطبقة المتوسّطة العليا في الثمانينيات مع حظر التجول؟ أو كيف استقبل الشعب التركي منتج جديد مثل المشروبات الغازية؟
زرتُ تركيا ثلاث مرات قبل أن أقرأ أيّ عمل من الأدب التركي، وزرتها مرّتين بعد أن قرأت الأدب التركي، ولذا أقول لكم، إنّ زيارتها الأخيرة كانت تخطف الأنفاس، إذ استطعت أن أتخيّل نفسي في زمنٍ مختلف، وأن أحلّل شخصيات المارة وارتباطهم بأماكن معيّنة، وتعاطيهم مع الأحداث الحالية.
والآن، قبل أيّ رحلة جديدة، أحرص أن أقرأ عملًا أدبيًا عن البلد الجديد، فأنا لا أتعلّم إلا من خلال الأدب، ولن تكون التجربة كاملة دون رواية مرافقة أقرأ فيها عن الشوارع وأنا أسير فيها.