كورونا عربياً: حصاد عامين
في مثل هذه الأيام قبل عامين بدأت الجائحة في ضرب العالم العربي. من البداية شهدت الساحة العربية -كمثيلاتها حول العالم- تجاذباً فكرياً من كل الأطراف التي أرادت توظيف الوباء لخدمة سردياتها الفكرية، فمن المتدينين الذين ذكروا الناس بقدرة الله إلى العلمانيين الذين ذكروا الناس بقدرة العلم التجريبي الحديث و"ما سينقذنا من كورونا هو ما نقوم به على الأرض وليس ما يأتي من السماء"، كما قال الباحث الإماراتي عبد الخالق عبد الله في تغريدة، هذا بالإضافة لكم كبير من الأخبار الكاذبة والمتعجلة، مثل زعم مفتي مصر السابق الشيخ علي جمعة بأن شبكات اتصال الجيل الرابع هي سبب الوباء، ومثل الأخبار الكاذبة عن نجاح علاج مصري أو ليبي أو تونسي.
لكن الأخطر من ذلك كان توظيف الوباء للنكاية السياسية. مثلاً عقدت قمة لوزراء الصحة بمجلس التعاون الخليجي في مرحلة مبكرة من الوباء، ومن دون مقدمات تم منع دولة قطر بشكل غير نظامي من حضور الاجتماع في الرياض وذلك قبل انتهاء الأزمة الخليجية، وقد ظلت قطر لفترة بعدها أكثر دولة خليجية تعرضا للإصابة مقارنة بعدد السكان. وعلى المنوال نفسه انتشرت معلومات مضللة بخصوص الوباء وأنه "تركيبة قطرية بامتياز"، كما قالت الكاتبة نورا المطيري، التي توصلت لكون "الدوحة دفعت مليارات لزراعة هذا الفيروس المخيف في الصين، بهدف ضرب العام 2020 الذي كان معدا له بدء تحقيق رؤية السعودية 2030 ودبي اكسبو 2020 ونهاية الخلافة العثمانية وتحقيق اتفاق الرياض وعودة السلام للشرق الأوسط"، إلى نورة الشنار، الكاتبة بصحيفة سعودية أخرى، التي أعلنت أن الفيروس "مؤامرة إيران وقطر لسحق هذا العالم". وحين كانت الإصابات ترتفع بشكل خطير في دول أوروبية، كتب محمد الساعد، أحد كتاب صحيفة عكاظ، أن ذلك جاء نتيجة مؤامرة من "السفاح أردوغان" عبر فتح الباب للاجئين السوريين لدخول أوروبا بهدف نشر الوباء، بينما نشر اللواء السعودي زايد العمري معلومات مغلوطة مشابهة عن خطة تركية لنقل العدوى للسياح العرب، كما نشرت صحيفة سعودية فيديو غير صحيح عن وفاة قطري بالوباء أثناء وجوده في مركز تجاري، بينما زعم الإعلامي المصري أحمد موسى أن قطر تتخلص من الفواكه الإيرانية خوفاً من الوباء، ونشرت اليوم السابع المصرية خبراً مكذوباً حول هروب مسؤول قطري من مقابلة بعد أن عطس المذيع.
كان الوباء كارثة حقيقية على بعض الدول العربية الهشة التي تعاني من كوارث أخرى مزمنة
الإجراءات المتعلقة بالمساجد والشعائر الدينية كانت جانباً آخر من الجائحة أثار الجدل خصوصاً في الدول التي طالت فيها هذه الإجراءات، مثل البحرين والمغرب، وقد استغلت الشعبوية الإسلامية هذه الظاهرة لاتهام الحكومات بالتخطيط سراً لإلغاء الصلاة وما شابه. الحقيقة أن عموم الحكومات العربية ليست ضد إقامة الشعائر الإسلامية وليست لديها خطة سرية لاستغلال الوباء في إلغاء مظاهر الدين، السبب الأكبر لإهمالهم مشاعر الناس بخصوص المساجد هو أن الدولة الحديثة في كل مكان هي دولة لا تهتم بالجانب الروحاني للسكان وتنظر للسياسة نظرة "عقلانية" تريد أن تحسب كل شيء بالورقة والقلم. في هذا النمط من الإدارة لا يوجد معنى لمفاهيم البركة والنورانية التي تنطوي عليها المساجد لكن يوجد معنى واضح وقوي لمفاهيم الربح والخسارة الاقتصاديين، ولذلك استمر غلق المساجد في بعض الدول حتى حينما أعيد فتح الأعمال والأسواق وازدحمت بالناس. تعودت الدولة الحديثة على عدم الاكتراث للمسألة الدينية، والدول الإسلامية الحديثة ناسبها في ذلك مرونة الشرع وما يحتويه من مجال واسع للأخذ والعطاء الفقهي في حالات الطوارئ. تصبح قاعدة مثل "الضرورات تبرر المحظورات" قاعدة أساسية يمكن استعمالها حتى حينما لا تكون هناك ضرورات حقيقية.
صلاة الجمعة كانت الإشكال الأكبر الذي واجهته الدول الإسلامية كافة تقريباً لأنها الأشد ازدحاماً. أحد الحلول السهلة لهذه المعضلة هي إقامة عدة صلوات جمعة متتالية في كل مسجد لأن وقت صلاة الجمعة شرعاً هو نفسه وقت صلاة الظهر أي يمتد من أذان الظهر إلى أذان العصر، وهذا هو الحل الذي لجأ إليه مسلمو المهجر منذ سنوات بسبب ضيق مساحة المساجد وكثرة عدد المصلين بحيث تكون هناك في كل مسجد 3 جمع أو أكثر، وهو حل بسيط وسهل وعملي وسيخفف الضغط على المساجد بشكل كبير، وهو حل جميل ليس فقط أثناء الوباء وإنما عموماً، لأنه مع تغير أنماط الحياة المعاصرة سيكون من المفيد أن تقام الجمعة أكثر من مرة بحيث يلحقها الجميع مهما تنوعت انشغالاتهم. فلماذا لم تلجأ دولنا لهذا الحل البسيط؟ بالإضافة لعدم اكتراثهم بالشأن الديني، هناك سبب آخر قوي وهو خوفهم من استقلالية المساجد والمنابر، فهذا الحل سيضاعف عدد الخطباء أكثر من الضعف وبالتالي سيكون هناك عدد كبير من الخطباء غير التابعين للجهات الرسمية، وهذا يعد كابوساً لدولنا التي كان همها دوماً كيف تسيطر على المجال الديني وتحتكر المنبر والفتوى ضمن عدد من الموظفين الموافق عليهم.
فلسطينياً، كان الوباء فضيحة لسياسات الفصل العنصري والعقاب الجماعي الإسرائيلية والتنصل من الالتزامات القانونية لأي قوة احتلال تحت القانون الدولي بالإضافة لاستعمال اللقاح كجزء من عمليات التبادل المقترحة مع حماس والسلطة الفلسطينية والنظام السوري، ورغم كل ذلك لم تتم معاقبة إسرائيل، بل كانت فترة الوباء هي نفسها فترة التطبيع العربي المجاني والذي وصل للتعاون العسكري والاستخباراتي العلني مع دول كالبحرين والإمارات والمغرب بالإضافة لنقل إدارة القوات الأميركية المتمركزة في إسرائيل إلى مركز القيادة الأميركية الوسطى في قطر.
أخيراً كان الوباء كارثة حقيقية على بعض الدول العربية الهشة التي تعاني من كوارث أخرى مزمنة -كاليمن ولبنان- ولا تزال الكثير من الدول العربية الهشة ذات مستويات تلقيح منخفضة، بينما الدول العربية الغنية مثل الإمارات وقطر تقع ضمن أعلى الدول تلقيحاً، ولا يبدو أن هذا الموضوع المقلق له أولوية لدى جامعة الدول العربية أو الدول الأعضاء للأسف، ومن المقلق أن يستمر الوضع هكذا.
لقد أظهر عاما الوباء الكثير من أوبئتنا وحري بنا أن ندرسها ونفهما لعلنا نخفف من آثارها على الأجيال القادمة.