كأنّ المسافة قدرنا
"أفكّر في الغدِ كثيرًا، نظرًا في صلاحيّة واحدنا للآخر، لكنّني أبصرُ أنّ مكاننا محجوزٌ فيه بقدر ابتعادنا عمّا نعتقد، لأنّنا كلّما اقتربنا من ذواتنا، بما تحمل وتعتقد، رأوا فينا خطرًا، أو جنونًا، ولا قابليّة للعيش بينهم، فحجزونا، وكأنّ الحواجز قدرنا: مسافة تفصلنا عن حقيقتنا، أو جدران تمنعنا عن الحياة، والخيار محال؛ إذ لا خيار لنا إلا القيام بدورنا والاتساق (قدر جهدنا وزيادة) مع ما نعتقد في صحّته بعيدًا عن حسابات المكسب والخسارة، الأمان والخطر، وبعيدًا عن حساب المصلحة في نظر الآخرين أو نظرنا..."
(مقطع من رسالة في المعتقل لصديقة 2021 م)
يبدو تكرارًا مُملًّا إعادة الحديث عن حدودِ العلاقة مع السلطة في هذه اللحظة، لكنّ المرور الأخرس لعمليّة رفح بما فيها من رعبٍ إنسانيٍ ورفعِ علم العدو على الجانب الآخر من المعبر، يستدعي الصراخ لا مجرّد التكرار، فهي خطوة بالغة الإهانة لمصر (لا للسلطة فحسب، فهذه فقدت كلّ إحساس، إنّما لكلّ مصر بما فيها ومن فيها)، فوق كونها انتهاكاً حتى لاتفاق العار (كامب ديفيد) المتنازِل والمنبطِح.
لكنّ اصطفاف السلطة مع العدوّ صراحةً في كلّ خطوة وموقف (مهما كانت منتهكةً للراسخ من مفاهيم الأمن القومي المصري)، يجعلنا نفقدُ الأمل في أيّ خطاب موجّه له، ونتوقّع الأخسّ في كلّ تصرّف أو أمام كلّ مواجهة، وهو ما يعيدنا للحديث إلى الناس عمومًا والنخبة/المعارضة (أو ما بقيَ منها) على وجهِ الخصوص لأنّها موطن الأمل الوحيد، هذا إن كان ثمّة أمل.
قد يتقوّل البعض، استسهالاً أو تحليلاً، حول اقتحام رفح بأنّها عمليّة جزئيّة تختلف عن تلك الشاملة التي هلع منها العالم، ويدلّل بعدد الضحايا والهجمات الحاصلة في مقابل تلك المتوقّعة، وشيءٌ من هذا صحيحٌ واقعًا، لكنّ الاقتحام الجزئي/التدريجي مناورة من رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو لإرضاءِ الأكثر تطرّفًا وجنونًا في حكومته، دون إحداث قطيعة مع معسكرِ اليسار عنده وآلاف المتظاهرين في شوارع فلسطين المحتلّة، أو حتى إدارة بايدن، أو حتى ورقةً ضاغطة في سياق المفاوضات بعد القنبلة التي ألقتها حركة حماس في وجه الجميع بقبولها الطرح المصري القطري، الذي اشتمل تخلّيًا عن حاجزها الأوّل عن قبول ما فات من صفقات "الإنهاء الكامل للعدوان".
الانهزام مصيره الوحيد هو "الهزيمة"، واعتياد الصمت تقدمةٌ للخرس، وكلّ تقديم للأمان على حساب الحقّ، سيُفقد كليهما
وإن كان هذا كلّه تحايلاً الآن، فابتلاعه بهذا الخرس يفتح الباب أمام تحقّق الكارثة الأفظع، ويحقّق الهاجسَ كما خشيناه وأكثر؛ ألم نجرّب هذا طيلة أشهر الإبادة؟ كم مجزرة مرّت باختبارِ ردودِ الأفعال ففتحت الباب لأبشع منها، تواليًا وبلا توقّف، حتى الآن؟ ألم نجرّبهُ نحن في الداخل بالرضوخ لكلّ إعادة ترسيم (يوميّة أو شبه يوميّة) للسقف المنسحق أصلاً، ومع كلّ سقوط في الاختبار تأتي الضربة التالية أقمع وأقسى؟ متى سندركُ في هذه وتلك أنّ الانهزام مصيره الوحيد هو "الهزيمة"، وأنّ اعتياد الصمت تقدمةٌ للخرس، وأنّ كلّ تقديم للأمان على حساب الحقّ سيُفقد كليهما.
الراسخُ من "قواعد الاشتباك" في الحياة المصريّة، وخاصّة السياسيّة، بحاجة لإعادة صياغة، لأنّه كما سبق وقلنا لا يُفقِدُ المساحات فحسب، إنّما يهدّد الوجود ذاته، المعنويّ ابتداءًا والماديّ كذلك، إذ ما الذي يضطرّه ليبقي عليك؟ لماذا يمنحك مساحة وأنت تتراجعُ أمام كلّ ضربة، أو ضغط، أو تهديد حتى؟ ما الذي تتركه (بعيدًا عن اللحظة) للجيل القادم من رسالة؟
لعلّ الدرس الأبقى/الأبرز من سابع أكتوبر المنصرم هو أنّ المقاومة احتمالُ انتصارك الوحيد (وبقائك أيضًا)، وأنّ السكون لا يعني الموت وحده، إنّما قد يعني الاستعداد للتفجّر.