"كأنّك مفيش".. الوزير الذي أراد أن يكحّلها!
مع تأجج جائحة فيروس كورونا، ساد التخبّط دول العالم، واتُّخذت قرارات غير مبرّرة وأخرى منطقية، تحدث رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، عن ضرورة اتباع مناعة القطيع، ولكن ما إن أصيب بالفيروس حتى هرع إلى المستشفى وخضع لرعاية صحية كاملة، وفي تلك الأيام اتخذ وزير الصحة مات هانكوك (46 عاماً) تدابير احترازية عدّة.
قبل الناس على مضض تلك التدابير، الفيروس يرجّ الأرض رجّاً، الإصابات بالملايين والوفيات بالآلاف، فقد الناس عدداً من أحبائهم وأصدقائهم في هذه الجائحة، أمي واحدة من هؤلاء، في لمح البصر اختطفها الموت وهي أغلى ما لديّ في هذا الوجود. والأجواء على هذه الشاكلة، نشرت صحيفة "ذا صن" البريطانية في 6 مايو/ أيار 2021 صوراً للرجل الذي أقرّ التدابير الاحترازية في بريطانيا، يمرح ويقبّل مساعدته جينا غولدانغلو داخل مكتبه، خارقاً إرشادات التباعد الاجتماعي التي شدّد على التزامها.
انتشرت الصور كالنار في الهشيم، اتهمت المعارضة الحكومة بالرياء، إذ فرضت على المواطنين غرامات مالية للحدّ من كسر قواعد التباعد الاجتماعي، وقال حزب العمال (المعارض الرئيسي) إنّ حكومة جونسون تحتاج إلى تقديم أجوبة حول تعيين غولدانغلو مساعدة في فريق هانكوك الاستشاري دون إعلان ذلك. لم يكتف وزير الصحة بتعيين مساعدة خاصة، بل إنه خرق القواعد وأخذ يضيّق على الناس بدعوى الحفاظ على سلامة الجميع.
مع احتقان الأمور وتزايد وتيرة ردود الفعل، يجد هانكوك نفسه في مأزق يضطره إلى تقديم استقالته، في 26 يونيو/ حزيران 2021، فينقسم الرأي العام بين منتشٍ متشفٍّ ومتعاطف متضامن. انبرى عددٌ من الوزراء معلنين تضامنهم، فزميلهم خسر حقيبته، وقد يخسر زوجته التي آلمتها الفضيحة، يحدوهم في ذلك مبدأ أنّ إبداء التعاطف مع الناس ليس ترفاً، إنه تعبير عن الإنسانية والتضامن البشري، وهو منطق معقول ومقبول.
على خلفية هذا الحدث، يُجري تريفور فيليبس من (سكاي نيوز) مقابلة مع وزير أيرلندا الشمالية، براندون لويس. يبدأ الصحافي حديثه بمقدمة تمهيدية طويلة نوعاً ما، وسأطلب منك عزيزي القارئ (ولك الشكر سلفاً) أن تحكم على مضمونها قبل أن نستطرد في تفاصيل المقابلة. يقول فيليبس: "السيد الوزير! أريد أن أطرح عليك سؤالاً شخصياً، لا أفعل ذلك عادةً، لكن المسألة أنّ الوزراء (بمن فيهم أنت) دافعوا عن رئيس الحكومة ووزير الصحة. كانت الصور المشار إليها في 6 مايو/ أيار الماضي، وبعد 5 أيام فقط دُفنت ابنتي، لم تقضِ جراء فيروس كورونا، لكن الإغلاق حرم أهلي وأحبتي تشييعها إلى مثواها الأخير، قدّموا التعازي عن بعد، لم يُسمح لهم بالحضور إلى المقابر رغم وجودها في الهواء الطلق، وذلك عملاً بتعليمات السيد هانكوك".
بعد هذه المقدمة (العاطفية شكلاً والمنطقية ضمناً) يصل فيليبس إلى النتيجة، يقول: "في المرة المقبلة التي يخبرني فيها أحدكم (يقصد الوزراء) بما يجب أن أفعله في حياتي العامة، اشرح لي: لماذا يجب عليّ أن أنصاع لما يقوله؟". مرّة أخرى عزيزي القارئ (وسامحني على تكرار التمرين) ضع نفسك لثوانٍ معدودات مكان فيليبس، أليس في سؤاله منطقٌ قوي؟ أوليس الذي يأمر الناس ملزماً بضرب المثل والقدوة بنفسه؟ ألم يقل أبو الأسود الدؤلي أو المتوكل الليثي -على اختلاف المصادر- (يا أيها الرجل المعلم غيره/ هلا لنفسك كان ذا التعليم/ ابدأ بنفسك فانهها عن غيها/ فإذا انتهت عنه فأنت حكيم)؟ وكيف يستقيم الظل والعود أعوج؟
أوليس الذي يأمر الناس ويضع القوانين ملزمًا بتطبيق القوانين وضرب المثل والقدوة بنفسه؟
بدا الوزير الأيرلندي (ويداه ترتجلان النار والحطبا) مدافعاً عن هانكوك، لم يطرف له جفن، كأنما لم تطرق كلمات فيليبس وخسارته ابنته مسمع لويس، أو على طريقة أحمد فؤاد نجم "كأنّك مفيش". تصنع المفارقة ضجيجاً لا مثيل له، تبدو فجة وشديدة الإفصاح عن نفسها، ربما بدرجة كارثية، ويحتاج المرء إلى التفكير مليّاً في تصرفاته ومراقبة كلماته باستمرار، لا شيء يُترك للصدفة.
جاء براندون لويس مبرمجاً نفسه على آلية دفاع، خلع عاطفته خارج المقابلة كما يخلع المرء ثوبه، ليظهر بارداً باهتاً وكأنه إنسان آلي (روبوت). قد تتهمه بقلة الذوق وتبلّد المشاعر والتنبلة والغباء الاجتماعي، ربما تنثال على ذاكرتك عبارات كقول السندريلا سعاد حسني: "عنده برود أعصاب اسم الله ولا جراح بريطاني"، أو توبيخ المعلم جابر الشرقاوي (في فول الصين العظيم) لحفيده محيي: "مفيش فايدة، جِبِلة".
إن أحسنت الظن به، فإنك ستُشفق عليه، سيلمع بخاطرك مشهد أبي العالية وقد دعاه هارون الرشيد حين مات سعيد بن مسلم الباهلي، وطلب إليه أن يعلم فتى من بني هاشم تعزية يعزي بها ولد سعيد، فقال أبو العالية للفتى: إذا صرت للقوم فقل: "عظم الله أجركم، وأحسن عزاءكم، ورحم سعيداً"، قال الفتى: هذا طويل، فاختار المعلم صيغة أخرى وطلب من الفتى أن يقول: "أعظم الله أجركم، وختم بالصبر على قلوبكم"، فقال: "هذا أطول من ذاك"!
أبو العالية ليس في وسعه أن يتبرّم، يكظم غيظه وينفّذ التكليف السامي، عندها قال مغالباً دهشته، وربما صدمته: قل: "أعظم الله أجركم"، لا صيغة أخف من هذه وأنفع في موقف كهذا، وإمعاناً في الإخلاص وإتقان العمل، كرّر أبو العالية على الفتى الكلمات الثلاث: "أعظم الله أجركم"، وكرّرها عليه يومين؛ فماذا كان من أمر صاحبنا؟!
يقول أبو العالية: "فلما كان اليوم الثالث ركب وركبنا معه، فلما قرُب من باب القوم خرجوا إليه حفاةً إعظاماً له، فلما رآهم قال: ما فعل سعيد؟ قالوا: مات، قال: جيد وما أظن ذلك، فإيش عملتم به؟ قالوا: دفناه، قال: أحسنتم! ثم انصرف". هذا الفتى تفاعل مع موت سعيد بن مسلم، وإن بطريقة كاريكاتيرية، في حين أنّ براندون لويس ضرب عن الأمر (بجملته ودراميته) صفحًا، واكتفى بتبرئة ساحة زميله العاشق الولهان، مع ملامح روبوتية، تحيلك إلى طريقة رئيسة الحكومة البريطانية التي سبقت جونسون، تريزا ماي، التي وصفها جون كريس رسام الكاريكاتير في صحيفة ذا غارديان بـ"مايـبوت Maybot".
سؤال فيليبس (بمقدمته على طولها) أوقع في نفس المشاهد من غيره، كأن يقول: ماذا تقول لشخص فقد ابنه أو ابنته خلال هذه الجائحة؟ أو أن يقول: إن قال لك أحدهم إنه فقد ابنه أو ابنته الأيام الماضية في ظل الظروف الحالية؛ فبماذا تجيبه؟
ويبقى السؤال: ما الطريقة التي غابت عن براندون لويس وكان عليه أن يتعامل بها في هذا الموقف؟ ولماذا رمى صحافي (الغارديان) تريزا ماي بالآلية؟ ولماذا يجب التعلّم من موقفيهما؟ سندور في فلك هذه الأسئلة وغيرها، وللحديث صلة.