في مديح قاطع التذكرة
سألني قارئ عزيز: كيف أتحمل الهجوم النقدي الضاري الذي يُشنّ على أغلب أفلامي؟ وسألني قارئ آخر أعز: كيف تكتب في السياسة بجرأة ثم تكتب أفلاماً لا تقدم أي مضمون جاد؟ ثم عاتبني قارئ ثالث عزيز برضه لأنني قلت إنني أهتم برأي الجمهور أولاً وأخيراً وأحترم رأي النقاد لكنني لا أهتم به بنفس القدر. بالطبع هناك قراء أعزاء ليس لديهم مشكلة فيما أكتبه للسينما بل يستمتعون به، وأنا أشكرهم على ذلك، لكنني مهتم أكثر بأن أجيب على أسئلة المعاتبين أو المنتقدين أو الغاضبين وهو ما أحاول أن أفعله هنا محاولاً أن أكتب جديدا في موضوع تحدثت فيه عشرات المرات، لكن "إستعنّا على الشقا بالله".
شوف يا سيدي، وأنا أخطو خطواتي الأولى في عالم السينما تعلمت من الفنان الكبير عادل إمام أن أصدق شباك التذاكر، ليس فقط لأنه أصدق صندوق انتخابي في مصر لا تزوِّر نتائجه قوات أمن، ولا يغير نتائجه قضاة يلوثون ثوب القضاء الناصع البياض، بل لأنه إفراز مباشر لإرادة متفرج السينما الذي يفتح بيوتنا ويصرف علينا على حد تعبير عادل إمام الذي منذ أن أعطى المصريون ثقتهم له لكي يكون نجم الشباك الأول في مصر بلا منازع، وهو مخلص لهذه العلاقة، يضعها دائماً نصب عينيه حين يكتب رقم إيرادات أفلامه كل ليلة على مرآة غرفته في المسرح، لتذكره بمكانته عند الناس الذين اقتطعوا من أقواتهم أموالاً لكي يتفرجوا عليه، تاركاً للكتاب والنقاد والمثقفين أن يغرقوا في جدل بيزنطي لم ولن ينتهي حول ما الذي يصنع القيمة الفنية: الإيرادات أم رأي النقاد؟ رأي الجمهور أم رأي النخبة؟ من هو الأفضل عادل إمام الذي يحتل دائما رقم واحد؟ أم أحمد زكي الذي لا تحقق أفلامه أي إيرادات، صانعين صراعا وهميا لم يخسر فيه أحد سوى النقاد؟
كان أحمد زكي يؤمن دائماً على كلام النقاد ويجد فيه عزاءً كثيرا لخذلان الناس له في دور العرض في العديد من الأفلام، مرة قال لي في حوار صحفي: "عادل إمام مش بس نجم شباك.. لا ده نجم بلكونة.. بس أنا شباكي على قدي وستايره حرير وعاجبني"، احترمت منطقه لكنني بعد أيام معدودة كدت أرتمي على الأرض من الضحك، وأنا أشاهده يشعل خناقة بنت لذين، لأن فيلم عادل إمام أخذ منه سينما مترو، وبعدها بيومين كان يلقي على أحبابه دراسة تحليلية لأسباب انخفاض إيرادات فيلم (حسن اللول) مقارنة بإيرادات (بخيت وعديلة الجردل والكنكة)، وكنا نستمع ونضحك لأن أحمد زكي بذات نفسه لم يقنع بكل كلام النقاد والكتاب، بل كان يتمنى داخله أن يرى الناس "بالضرب" أمام السينمات التي تعرض أفلامه، وحين كتب له القدر ذلك أحياناً في (شادر السمك) و (كابوريا)، بينما انصرف الناس عن مشاهدة (الحريف) و (حب في الزنزانة)، لم يسعد ذلك أحمد زكي بل ذهب ليتخانق مع أصدقائه لأنهم ذهبوا بهذه الأفلام إلى عادل إمام بدلاً منه، قال لي مرة: "بقى يعني عايزني أنبسط لما الناس تنبسط وهي بتتفرج عليا وأنا باتكرع وأقول أحمد أبو كامل وعادل إمام في السينما اللي جنبي بيمثل بجد ويغيظني"، لكنه في الفيلم التالي كان يغضب مجدداً، لأن الناس ذهبت إلى عادل إمام ولم تأت إليه وهو يمثل من قلبه ويتصور أنه بتمثيله سيغيظ عادل إمام.
في النهاية وبعد سنوات من التحليلات والآراء والمقارنات والمناهدة والهجمات والمناوشات، بقي عادل إمام متعه الله بالصحة والعافية وبقي أحمد زكي رحمه الله، وما قدماه لازال يعيش في وجدان الناس، كل في موقعه، أحمد زكي كأعظم ممثل شهدته مصر على الإطلاق من وجهة نظري، وعادل إمام كأسطورة سينمائية تربعت على القمة لأكثر من ثلاثين عاماً قدم فيها كل أنواع السينما المتاحة في عصره، وبقي معهما محمود عبد العزيز ويحيى الفخراني ومحمود ياسين ونبيلة عبيد وفاروق الفيشاوي، بل وبقي أيضاً محمد عوض وأمين الهنيدي، بقي شنبو في المصيدة والزوجة الثانية والأرض ومقص عم قنديل والسقا مات وعفريت عم عبده والكيت كات وعليش دخل الجيش، وبقيت آلاف من الأفلام الجيدة والمتوسطة بل والرديئة التي اختلف الناس حولها ومعها وعنها، لكنها بقيت في ذاكرة السينما، وبقيت في مكان أبعد من ذاكرة السينما أيضاً المقالات التي كتبت عنها تمدحها أو تهاجمها أو تتجاهلها، وكلما كتب ناقد غاضب عن هذا الفيلم أو ذاك أنه سيسقط من ذاكرة السينما، ثبت بعد سنين أن كلامه غير صحيح فحتى فيلم بسيط جداً من الناحية الفنية مثل (تجيبها كده تيجي لها كده هي كده) يمكن أن يجلب ألاف الدولارات من الدقائق الإعلانية عند عرضه بسبب إقبال المشاهدين عليه.
هنا أحب التذكير بأنه على مدى تاريخ السينما المصرية ـ وأنا أتحدى أحداً أن يكذبني، تحدي محبة لاتحدي خناقة ـ كان هناك من يتحدث عن أزمة السينما المصرية ويندب إقبال الناس على الأفلام الرديئة التي يرى أنها "تسطح وعي الناس وتزيفه"، بينما ينفضون عن الأفلام الجيدة التي لا تجد من "يعبّرها"، ومرت الأيام فأصبحت بعض الأفلام التي لم يشاهدها أحد في السينمات علامات بارزة في تاريخ السينما يستمتع الكل بمشاهدتها في التلفزيون والفيديو، وأصبحت كثير من الأفلام التي اتهمت بـ "تزييف وعي الناس" أفلاما لذيذة يقضي الناس معها أوقاتاً سعيدة في الظهيرة أو في المساء عندما "نريد أن نفضي دماغنا حبتين" ونبحث عن ضحكة من القلب، يعني، عاشت كل الأفلام وأكل النقاد عيشاً على قفاها جميعاً سواء بالمدح أو بالذم، وبقي صانعوها حتى المتهمون منهم بالتفاهة، وكتبت عن العديد منهم دراسات تاريخية، وقضى باحثون ساعات طويلة يجمعون معلومات عنهم لتحديث موسوعة سينمائية أو بيبلوجرافيا أو دراسة سيقبضون عليها بالدولار في مجلة كويتية.
لأنني أدرك ذلك كله، لم أعد أغضب أبداً عندما أقرأ أي رأي في فيلم من أفلامي، بل وأتصل بصاحبه إن كنت أعرفه لأشكره، أو إن كنت أعرف سوء طويته أشُكّه نقداً مماثلاً في حوار صحفي، أو أرسل له إفيهاً يثبت له أنني ولا في الدماغ، بينما على العكس ينخلع قلبي كل ليلة من ليالي الأسبوع الأول لعرض الفيلم وأنا أنتظر رسالة الإيرادات التي تصل على تليفوني المحمول لأعرف هل الذين "يصرفون عليّ" راضون عني أم لا، وفي الغالب الأعمّ كان الله عزوجل يديم رضاهم علي، حدث أن غضبوا عليّ مرة وسيحدث أن يغضبوا مرارا، لكنني سأظل دائما أسأل الله رضاهم، وأن يديم علي نعمة أن اقف في سينما بيجال ذات الألف كرسي ـ للأسف تم قبل سنوات تقسيم سينما مترو ذات الألف و300 كرسي إلى 4 شاشات بعد أن حضرت فيها مع الجمهور عرض فيلم (أبو علي) ـ أو سينما جلاكسي ذات المائتي كرسي، أقف في الظلام أشاهد فيلمي مع الناس، أسمع ضحكاتهم العالية وهي ترج السينما، أسجلها على الموبايل أو أصورها بكاميرا الفيديو أو أنقشها في وجداني حامدا الله على كل ضحكة أو سوكسيه أو تصفيق، ومقطبا إن رأيت شرودا أو همهمة أو هرجا، أفتخر بأنني أكتب لأسعدهم.
عندما يقول لي أحد متصوراً أنه يغيظني: يعني إنت عامل زي المهرج في السيرك، أفرح وأقول له: يا ريت أنول هذا الشرف، لقد منحنا مهرجو السيرك ونحن أطفال سعادة ربما لم نسعد مثلها بعد ذلك. لا ألوم أحدا لا يفهم منطقي هذا، لأنه ربما لم يكن يوماً في نفس موضعي حين كنت أندس وسط مئات من البشر نتلقى ضربات الأمن المركزي وعصي أمن السينما، كل ذلك لكي نلحق بأول حفلة لعادل إمام في العيد، نسعد معه وبه على قدر ما تسمح لنا به عيدياتنا، نشعر أننا سعداء ولو لساعات، ونخرج من السينما "وشنا ضاحك وقلبنا مزقطط" نسترجع افيهاته ونقلد طريقته في التقبيل وإشعال السيجارة ورفعة الحاجب وضرب الأشرار، في نفس الوقت كان بالتأكيد ثمة ناقد كبير يجلس ليكتب دراسة عميقة عن أسباب أقبال الناس على عادل إمام الذي يسطح وعيهم ويقوم بتخديرهم وتزييف وعيهم، تماما كما كان ثمة من يكتب دراسات مشابهة عن اميتاب باتشان أو جان بول بلموندو أو بروس ويليس أو ايدي ميرفي أو محمد سعد. بالمناسبة شاهدت نقاداً كثيرين كتبوا من قبل مقالات غاضبة عن عادل إمام وهاجموا بعضاً من أقرب أفلامه إلى قلوب الناس، ثم دارت بهم الأيام ليكتبوا أشعاراً في أفلام له أظن أنها أقل مستوى من أفلامه التي أرست عرش محبته في قلوب الناس، فأدعو الله لمن اخترع سلاح الأرشيف، أمضى سلاح لكشف تناقضات الكتاب وانتهازيتهم ولعبهم بالبيضة والحجر.
هنا أحب أن أنبه القارئ الكريم إلى وهم نقله نقاد وصحفيو السينما إلى كثير من القراء، ألا وهو تقييم الفيلم بكونه يترك أثرا في نفس المشاهد أم لا، قرأت أكثر من مرة أسئلة عن أغلب أفلام الشباب خصوصا الكوميدي منها تسأل "ما الذي يبقى في داخل المتفرج للأبد بعد أن يشاهد أفلاماً مثل حرامية في كي جي تو واللمبي وبوحة وعوكل وصايع بحر وظرف طارق وغيرها"، والحقيقة أنني أتمنى لو سمعت هذا السؤال مرة أخرى أن تسأل من يسأله أو حتى تسأل نفسك منذ متى كان يشترط أن يترك الفيلم السينمائي شيئا بداخل مشاهده إلى الأبد، ومن الذي وضع هذا شرطاً للحكم على الأفلام السينمائية؟ ثم يعني لو شاهد أحد فيلم (المومياء) ورأى أنه مجرد هراء لا يترك بداخله شيئاً، هل يصبح فيلم المومياء هراء؟ وما الذي يبقى بداخل من يشاهد سلسلة أفلام مهمة مستحيلة أو ملائكة شارلي أو داي هارد أو أفلام اسماعيل ياسين سوى التسلية وقضاء وقت لذيذ؟ وهو هدف غاية في النبل لا يقدره حق قدره إلا من كانت حياته معذبة وذهب إلى السينما ليبحث عن عزاء يعينه على مرارة الحياة، ثم إن السؤال هو من الذي نستطيع أن نتخذه معياراً للحكم على بقاء شيئ في نفس المتفرج، هل هو الناقد أم المتفرج، يعني لو أتيت لناقد ما بمئة شاب جامعي وجعلتهم يسمِّعون له حوارات كاملة من اللمبي أو عوكل أو حرامية في كي جي تو، هل يفترض أن يجبره ذلك على أن تحوز هذه الأفلام على رضاه السامي وصك غفرانه؟
هل أقول كل هذا لكي أتهم كل من يهاجم أفلامي أو أفلام غيري بأنه غير صادق فيما يكتبه، حاشا لله، فأنا أعلم أن كثيرا من النقاد فعلا لا يحبون الأفلام الرائجة بين الجمهور، ولست أستغرب ذلك فأنا أعلم فعلا ما يحبونه لأنني أحب بعضه وأستمتع بمشاهدته وأحاول جاهدا أن أصنع تجارب مختلفة فنياً لم تجد فرصتها للإنتاج بسبب رغبة أغلب صناع السينما في إنتاج نوع واحد مضمون أكثر، لكنني لم أترك ذلك يحبطني لأنني أيضا أحب أن اصنع أفلاماً ممتعة، سمها أفلام هلس، سمها أفلام مسخرة، سمها أفلام تنساها بمجرد خروجك من السينما، سمها أفلام لذيذة، سمها ما شئت، ولن يغضبني أي إسم تطلقه عليها، لكنني سأغضب لو ظننت أنني أصنعها وأنا غير مقتنع بها أو غير محب لها، فأنا لم ولن أكون بحمد الله راكباً على الموجة أو انتهازياً، وإلا لاتخذت من ذلك منهجاً في حياتي كلها.
أزعم والعلم عند الله أنني صادق مع نفسي، لا أبحث عن شهادات من أحد، لا أحب أن يقال عني إني أستاذ، فسأظل دائما تلميذاً أخطئ وأتعلم من أخطائي، ولعلي يوماً ما أصيب، وربما لا أصيب، ليست هذه مشكلة بالنسبة لي، تفرحني مقالة مكتوبة لكن يطربني أكثر رقم إيرادات عالي أو سينما مزدحمة تملؤها الضحكات في مشهد ضاحك، أو يسودها الصمت في مشهد إنساني، وعندما يقول الناقد المحترم طارق الشناوي أنني دائما أبحث عن الإفيه لن أقسم له على المصحف أنها بتيجي معايا من غير بحث أو حزق، ولن أجادله فيما إذا كان فيلم (أبو علي) اسكتشات حسب رأيه، أو أن (حاحا وتفاحة) ليس فيه قصة إطلاقاً، لأنني أعلم خطأ رأيه، لكنني أفضل أن أحتمي ببهجة الناس في الحفلات المزدحمة وبتصويتهم لفيلم (أبو علي) وحبهم له وثنائهم على قصته وتصفيقهم في نهاية الفيلم في كل الحفلات التي حضرتها، وأحتمي بسيدة كبيرة تعرّف أبناؤها علي وأنا أمام باب السينما التي تعرض (حاحا وتفاحة) فقالت لي بمحبة لا أظنها خادعة: "ربنا يسعدك يا ابني زي ما أسعدتنا" وأخذت تحكي لي عن تشابه قصة الفيلم مع قصة حدثت في أسرتها.
بالطبع أعلم أن رضا كل الناس غاية لا تًدرك وأن هناك من يدخلون أفلامي ويخرجون ساخطين، هؤلاء هم الذين لا أجادلهم أبداً، بل أقول لهم فقط: "أوعدكو أعوضكو الفيلم الجاي"، فهل أجرؤ على أن أجادل دافع تذكرة، أعوذ بالله. دي مش أخلاقي أبداً، ولذلك ختاماً لا أملك إلا شكر من دخل فيلماً لي وانبسط وخرج سعيداً ضاحكاً، ولا أملك إلا الاعتذار لكل من دخل فيلماً لي وتضايق أو خرج غاضباً أو محبطاً، وللجميع تحياتي ووعودي الصادقة في أن أبذل كل الجهد في أن أكون دائماً أفضل. والحساب يجمع.
...
نشرت هذه السطور في مجلة (الشباب) في فبراير 2006 رداً على تساؤلات قراء أعزاء، ومع أنني تجاوزت تلك الأسئلة وتجاوزت الكثير من إجاباتها، إلا أنني لا أملك أن أمنع نفسي من تأمل ردود الأفعال على الكثير من أفلامي بعد مرور الزمن، وكيف انحاز المشاهدون لها طول الوقت، ومنحوها عمراً أطول من الذي توقعه أو تمناه بعض النقاد، بل وحدث ما هو أعجب بكثير، حيث أصبحت أقرأ مقالات نقدية لنقاد سبق أن هاجموها، وإن كانوا يختصون أبطالها وحدهم بالثناء والمدح، ولله في خلقه شئون.