في مديح الأزمة

05 مايو 2023
+ الخط -

منذ بداية الانهيار الاقتصادي في لبنان، تنبّه الكثيرون، وأنا منهم، إلى أننا تعوّدنا نمطاً استهلاكياً مرفّهاً لا نستحقه في الحقيقة.

لم لا نفعل؟ قد يسأل أحد الأشقاء العرب أو الأجانب. فنقول له: لأننا بكلّ بساطة، يا أخي في قريش، لا نُنتج شيئاً تقريباً. 

ومع ذلك، كان اللبنانيون، أو لنقل بعضهم المفذلك، ممن يقدّسون منتجات البلاد التي كانت تستعمرهم، إن كانت هذه المنتجات بضائع موضة، لغة أو أفكاراً، يأنفون بتعالٍ من استهلاك منتجات الصين أو تايوان، تركيا أو سورية، أكانت هذه المنتجات سلعاً، موضة، لغة أو أفكاراً. 

أما لماذا، وهم لا يصنعون حتى أسهل وأبسط ما يصنعه عمال تلك البلاد؟ فلأن قدرتهم الشرائية كانت تتيح لهم استهلاك المنتجات الأوروبية والأميركية، الأغلى ثمناً، لكن بالنسبة لهم الأضمن من حيث الجودة. وهم بذلك محقون، لكنهم أيضاً، من دون أن يدروا، كانوا يتحوّلون إلى طفيليات تعيش على حيوية المستهلك الأجنبي، والذي برقابته المستمرة على الجودة، ورفضه استهلاك ما هو غير مطابق للمواصفات، يتيح لطفيليينا، الذين لا ينتجون شيئاً ولا يراقبون شيئاً، أن يرتعوا في نعيم جودة تلك السلع بلا أيّ جهد يذكر، اللهم إلا "جهد" الذهاب للتسوّق!

سيجارة "سيدرز" الوطنية "صبرت ونالت"، حيث تضاعف مبيعها أكثر من خمس مرّات، فتحسنت جودتها وتنوّعت أشكالها بتنوّع طلب المستهلكين المحليين

اليوم، ومع وصول سعر المستورد إلى أرقام فلكية بالنسبة لمدخول الفرد بالعملة الوطنية، يضطر اللبنانيون لاستهلاك ما هو متوّفر من إنتاج محلي رخيص. وهم بذلك، يحوّلون، من حيث لا يدرون أيضاً، مصيبة انهيار قدرتهم الشرائية إلى نعمة الاتكال على الذات. 

لذا، تابعت بأعين فرحة، عودة بعض الماركات المحلية الملتصقة ذكراها بطفولتي إلى رفوف المخازن. كنت ما إن أميّز إحدى تلك العلامات التجارية، حتى تعود إلى ذاكرتي أغنية إعلانها. كان بعض تلك الإعلانات لا يُنسى. لأنّ من قام بتأليفها وتلحينها من كبار الموسيقيين، كالأخوين رحباني مثلاً في دعاية لمسحوق غسيل، وكإعلان للراحل فيلمون وهبي في غاية الظرافة لماركة ملابس داخلية قطنية، لحنها وغناها ومثّلها.. بملابسه الداخلية. 

هكذا بدأت تلك العلامات التجارية المحلية تشهد إقبالاً معقولاً، وهذا جيد. مع أنها لا زالت مرتفعة الثمن نسبة إلى مثيلاتها السورية أو الصينية أو التركية، بسبب احتياجها لمواد أولية غير متوّفرة محلياً.

وفي محاسن الأزمة، شهدنا عودة الكثيرين إلى الزراعة. من لديه قطعة أرض في القرية، إن كان عمله الأصلي مهندساً او أستاذاً أو سائق تاكسي، عاد يحرثها لإنتاج ما يكفيه ذاتياً. وبما أنه أصبح للمنتج المحلي سوق متنامٍ، تشجّع بعض الصناعيين، الذين كانوا قد انسحبوا سابقاً بسبب منافسة المستورد، على العودة للإنتاج. 

أدى اليأس من أداء شركة الكهرباء ورفعها سعر الكيلوواط، إلى انصراف الكثيرين إلى الطاقة الشمسية النظيفة

نعمة أخرى، صحية هذه المرّة، أصلها الانهيار الاقتصادي: فقد أدى ارتفاع أسعار اللحوم بشكل جنوني للتقليل من استهلاكها. وهذا أيضاً جيد. فالمبالغة في استهلاك اللحوم، الحمراء خاصة، تتسبّب بأمراض خطيرة. وحتى التدخين المضرّ، وأيما ضرر بالصحة، مهما كان شكله، أصبح "صحياً" أكثر لأنّ الكثيرين عادوا للتبغ المحلي غير المعالج، للسيجارة اللف. وهذا التبغ، إضافة الى نظافته وفائدته للمزارع، أرخص بما لا يُقاس من المستورد. أما سيجارة "سيدرز" الوطنية، والتي كانت محتقرة كونها محلية الصنع، فقد صدق ما قالته فيها إحدى الظريفات عن أنها "صبرت ونالت"، حيث إن مبيعها تضاعف أكثر من خمس مرّات، فتحسنت جودتها وتنوّعت أشكالها بتنوّع طلب المستهلكين المحليين.

مبادرات عديدة ظهرت في مناطق مختلفة على خلفية احتياج الناس لتوفير النقود، كتلك المجموعات التي تعرض التشارك في سيارة واحدة بثمن الوقود بين من يتوّجهون إلى الجهة نفسها.

هكذا لاحظت في واجب عزاء في قريتي، أنّ السيارات التي كانت تزدحم في أيّ فسحة خالية قرب المسجد، بات عددها أقل بكثير، ليس لأنّ المعزين قلائل، بل لأنّ الكثيرين نظموا أنفسهم للاشتراك بالتنقل بسبب غلاء المحروقات. ولو أنّ هذا التنظيم ظلّ ضمن كلّ عائلة على حدّة.

هناك مبادرة أيضاً لشراء الثياب المستعملة من مستخدميها المحليين، بدلاً من شراء البالات المستوردة. ومبادرة شراء الشركات الكبرى للنفايات المفروزة من الأفراد. كما عادت إعلانات الحاجة إلى خياطين لتشي بعودة شركات الألبسة الوطنية، إضافة إلى دكاكين الخياطة وورش صناعة الأحذية ومعامل الأدوية. 

قد تكون الأزمة الحالية فرصة تغيير لهذا النظام المتحلّل الذي يسمّم جسم الوطن منذ عقود

ولقد أدى اليأس من أداء شركة الكهرباء ورفعها سعر الكيلوواط إلى انصراف الكثيرين إلى الطاقة الشمسية النظيفة. لا بل، إن بلدات قليلة، أصبحت تنتج وتبيع هذه الطاقة للقرى المجاورة، فتستفيد خزينة البلدية التي توّظف الأموال لتطوير خدماتها. وهذه نعمة، ولو كان سببها بالأساس نقمة. 

ومن أياد الأزمة البيضاء علينا، عودة مواطنين كثر من أحزمة البؤس في ضواحي المدن إلى قرى فرغت تقريباً في العقود الماضية من سكانها. صحيح أن معظمها يفتقر للخدمات الأساسية كالنقل العام والمدارس والمستشفيات، إلا أني أعتقد أنّ هذه العودة ستدفع لحراك جدي لتزويد تلك المناطق بالخدمات الضرورية، خصوصاً أننا على عتبة استحقاق انتخابات بلدية، ولو أنه أُجّل سنة.

نقرّع نحن اللبنانيين أنفسنا دائماً. نقول مستائين: انظروا للبناني في الخارج، كيف يتّبع النظام وهو صامت وبكلّ ممنونية، أما هنا؟ فانظر إليه كيف يأنف حتى من الوقوف في الصف منتظراً دوره؟!

صحيح. لكن السبب في الحقيقة ليس "طبيعة اللبناني" التي تفترضها هذه النظرية. ففي تلك البلدان نظام يؤمن لهذا اللبناني، كما لسائر الملتزمين بنظام تلك البلاد، احترامه وحقه، من دون حاجة إلى واسطة أو زعيم طائفة. أما هنا في بلاده؟ فهو مضطر لأن "يطاحش" للوصول إلى بعض حقه، وهو غالباً لا يصل. 

لذلك، قد تكون الأزمة الحالية، وهي في الحقيقة أزمة نظام طائفي انتهت مدة صلاحيته منذ عقود، لكنه، كما الزومبي، يعيش على دماء وعرق اللبنانيين، قد تكون، لا بل إنها، فرصة تغيير لهذا النظام المتحلّل الذي يسمّم جسم الوطن منذ عقود. 

وفي ذلك نعمة ما بعدها نعمة.