في شوارعِ القاهرة.. أيقنت معنى الحريّة
كان الأمرُ بمثابة عودة إلى الوراء، إلى نظامِ زين العابدين بن علي.
يخيّم نوعٌ من الصمتِ الذي لم أتعوّده، صمت يُخفي كاهلَ مصريٍّ مُرهقٍ من الاعتقالات. كما تملأ سياراتُ الشرطة وعرباتهم الضخمة شوارع التحرير، في يقظةٍ تامةٍ بحثًا عن الفريسة القادمة للاعتقال.
غابتْ عن رحلتي إلى مصر الحوارات السياسية. شوارع التحرير خالية من ثورتها، وكان قد حذرني العديد من أيّ سؤالٍ سياسي يستدعي مقارنات بين النظامين، فأيُّ فخٍ مُحكمٍ في الكلام قد يجعل من المكبوتِ فكريًا رأيًا قائمًا بذاته.
يهرولُ المصري نحو قطارِ جمال عبد الناصر. لم أنفك حقًا عن التفكير في الإنهاك الذي يحمله المصري، في اضطرابِ ما بعد الصدمة، المتخلّل في ذواتهم.
حتى الأزمة الاقتصادية التي تعيشها مصر حاليًا، يسعى سكانها جاهدين لتبريرها؛ بين جائحةِ الكوفيد والانكماش الاقتصادي العالمي، إذ يخشى المصري تحميل مسؤولية التضخم المالي للبرنامج الرئاسي الذي أبرز فشله منذ 8 يونيو/ حزيران 2014.
في الميكروباص المُؤدّي إلى القاهرة من محطة الإسكندرية، يُفتح باب العربة من قبل فتاة في مقتبل العمر. عشرينية بالتحديد. تأمرنا بالنزولِ من أجل الاقتراع: على الركاب إظهار الخنصر للتأكيد على قيامهم بواجبهم "الوطني". لم أع أنّ مصر قبل توضيب حقائبي كانت في تحضيرات على قدمٍ وساق للانتخابات الرئاسية، أو بالأحرى لإعادةِ تتويج "البلحة" على عرشه، هو الذي بدأ عرشه بانقلابٍ عسكري متقن، وخطاب سياسي أساسه عداوة الإخوان وبثّ الخوف في المخيّلة الجماعية من عودةِ سيّد قطب القرن الواحد والعشرين.
كانت لافتاتُ السيسي في حملته الانتخابية تُزيّن كلّ ركنٍ من القاهرة. "كمل مشوارك نحن معاك"، حيث تبدو الرسالة واضحة للعلن، هو إقرار بحتميةِ فوز السيسي بفترةِ الحكم القادمة. وبنسبة تعادل 89.6%، "فاجأ" فوز السيسي المصريين والعالم، وكأنّه كان من غير المتوّقع أن يعتلي عبد الفتاح السيسي كرسي العرش؟ كيف للمُنَكِّلِ بالمعارضةِ في قعرِ السجون ألّا يفوز؟
من مفارقات الأنظمة الدكتاتوريّة، هذا الحضور الجريء لمؤسّسات تجد أساسها في الفلسفة الديمقراطية
سيارة "الأوبر" في مصر أضحت آلية إيقاع ممتازة بالمعارضة، وطنية كانت أم أجنبية. أخبرتني إحداهن أنّ بعض سيارات "أوبر" مجهزة بكاميرات، وأخرى بميكروفونات، في عمليةِ صيدٍ يومية لـ "زهقنا من البلحة".
من محطةِ المعادي منطلقةً نحو مدينة نهضة السلام، ومن الأحد حتى الخميس، أمرّ بمحطةِ هشام بركات، حاملةً أكثر من ألف سؤال حول أحداث رابعة العدوية، ميدان هشام بركات أو المعروف باسم ميدان رابعة، والذي شهد أكبر مجزرة في تاريخ مصر الحديثة.
حسب "هيومن رايتس ووتش" لم تحاسب السلطات المصرية أيّ شخص في العشر سنوات الأخيرة على ما اعتبرته "أكبر عملية قتل جماعي في تاريخ مصر الحديث. مذبحة رابعة، وهي جريمة محتملة ضد الإنسانية" التي حدثت في القاهرة في 14 أغسطس/ آب 2013.
من المعادي للزمالك في "الأوبر"، ألمحُ على يميني المحكمة الدستورية المصرية. ومن مفارقاتِ الأنظمة الدكتاتوريّة، هذا الحضور الجريء لمؤسّسات تجد أساسها في الفلسفة الديمقراطية، حيث تمثّل المحكمة الدستورية حجر أساس دولة القانون، ويعودُ ذلك بالأساس للرقابة الدستورية على مشاريع القوانين، القوانين والمعاهدات والنظر في مدى تطابقها والدستور. فكيف لمصر السيسي أن تكون دولة قانون في الوقت الذي لم تتوقف السلطات فيه عن اعتقالاتها التعسفية وتعذيبها للنشطاء السياسيين؟
في رحاب مملكة السيسي، يمثل الترهيب والتخويف أهم محرّك للسلطة، آلية ناجعة لإخراس المعارضة وتحذير مباشر لسخط المواطن المصري
تسعى الدكتاتوريات لمحاكاةِ الأنظمة الديمقراطية عبر إرساء هندسةٍ مؤسساتيةٍ ديمقراطية، أي عبر العمود الفقري للديمقراطية (تمثيلية برلمانية، معارضة تحت قبّة البرلمان وانتخابات)، بيد أنّ الخط يبقى عريضًا وواسعًا بين كلّ من الديمقراطية والدكتاتورية. وفي رحابِ مملكة السيسي، يمثّل الترهيب والتخويف أهم محرّك للسلطة، آلية ناجعة لإخراسِ المعارضة وتحذير مباشر لسخطِ المواطن المصري.
تقييدٌ للحريّات والحقوق وحملات اعتقالاتٍ تعسفية للنشطاء السياسيين، وحتى المواطنين، بالرغم من التنصيص الصريح في الدستور المصري المؤرخ في سنة 2014، وتحديدًا في المادة 65 على حرية الفكر والرأي والحق في التعبير "بالقول، أو بالكتابة، أو بالتصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر".
في شوارع القاهرة غاب حتى حضور المظاهرات المساندة لفلسطين، في خشيةٍ متأتية من السلطة ذاتها، خوفًا من تحرّكات الشارع وغضبه المكتوم منذ عشر سنوات بعد حملةِ اعتقالاتٍ للعشرات من مساندي القضيّة الفلسطينية في كلّ من القاهرة والإسكندرية: نوستالجيا اعتقالات سبتمبر 1981 في عهد الرئيس المصري أنور السادات على خلفية زيارته إلى إسرائيل وكامب ديفيد.
بحثًا عن إحدى مقالات الرأي التي كتبتها منذ وقت طويل مع موقع "المنصة: ما رواه الناس"، لإثراء سيرتي الذاتية، فوجئت بعدم إمكانية الدخول إلى الموقع. ظننتُ في البداية، أنّ العطب يعودُ بالأساس لضعف الشبكة، ولكنّي تيقنت فيما بعد، وبفضل القيام بتجربةٍ مع إحدى الصديقات المُقيمات في مصر، عبر إرسال رابط الموقع، بأنّ "المنصّة" محظورة في مصر، كغيرها من المنصّات الإلكترونية التي تعتبرها السلطة تهديدًا لاستقرارها، نظرًا لنشرها مقالات وتحقيقات حول الوضع الراهن.
شبابُ القاهرة من المعجبين بفرقة الموسيقى العربية "كايروكي" (فرقة روك مصريّة) التي بلغ صداها أصقاع العالم العربي منذ أيّام الثورة المصرية، حيث يردّد الجميع كلمات أغنية "بسرح واتوه" و"ساموراي" من ألبوم الفرقة الجديد، لكنّي من بين كلّ الوجوه التي ألفتها خلال رحلتي لمصر، لم تتردّد على مسامعي أغاني "كايروكي" ذات الطابع السياسي بالرغم من سردِها الواقع المصري.
"إوعاك تسأل لماذا أو من أين لك هذا
خدلك چوب وإزازة وابعد عن السياسة
حقوقك اشطبها، اوعاك تطلبها
امشي جنب الحيطة واوعاك تعمل زيطة
احفر حفرة غويطة وادفن راسك فيها"
كلمات أغنية "السكة شمال في شمال"، يبدو أنّها لم ترق للسلطات التي سرعان ما منعت صدور ألبوم "نقطة بيضا" كاملًا في الأسواق. ولم تقدّم اللجنة المصرية أيّ مبرّرات للقرار المتمثل برفض كلّي لأربع أغانٍ من الألبوم: ديناصور، آخر أغنية، هدنة والسكة شمال في شمال.
دوامة الرقابة هذه قد تزجّ بالفنانين والموسيقيين في السجون المصريّة، لينتهي بهم الحال داخل كفن الإهمال وغياب العدالة، وهو حال المخرج والمصوّر، شادي حبش، الذي اعتُقل على خلفيةِ أغنية "بلحة" للفنان رامي عصام، والذي تُوفي بعد إصابته بأزمةٍ صحية في زنزانته في سجنِ طرة في القاهرة.
لم تستطع النيابة العامة المصرية المتميّزة برحابةِ صدرها الوقوف دون التحقيق في ملابسات وفاة شادي حبش، لتُكشف عن سبب دامغ وراء الوفاة "توفي من جراء تسممه بالكحول بعدما تناول، بحسب شهادة مرافقين له، مطهراً للأيدي ممزوجاً بمياه غازية"!
لا يمكن من وجهة نظر العلوم السياسية تطبيق نظرية النظام الشمولي لحنة أرندت على الواقع المصري، وذلك لعدم توّفر العناصر اللازمة، بيد أنّ السيسي أغرق المصري في مفارقتين: اللا اهتمام بالشأن السياسي والتمجيد حدّ الهوس بأبي هول مصر (عبد الفتاح السيسي). وطوال سنوات حكمه، جعل السيسي من الترهيب آلية ناجعة لفصلٍ مُمنهج وغير مرغوب فيه للسياسة من حياة المصريين، لتغدو محصورة بالنخبة المتغرّبة، والطالبة اللجوء في الدول الأوروبية.
أيضًا، على مقاسِ بدلة السيسي أُحيك نظام تقييد الحريّة، لتغدو المسلسلات المصرية داعمةً للنظام، ممّا يذكرنا بصورة حسني مبارك التي لم تفارق السينما المصرية.
منذ زيارتي لمصر وحتى اليوم، لم يفارقني التساؤل عن كيفيةِ خضوع المصري لنظام السيسي وفقدانه للروحِ الثورية، هل أثّر الخوف إلى هذه الدرجة على الحالمين للتخلّي عن الأمل؟ هل يمكن اعتبار ما يحدث منذ 2014 نقطة عبور إجبارية في ظلّ الانتقال للظفر بالديمقراطية؟