في رثاء خالد حناشي
جهاد زهري
تشبه المقبرة عدوّاً، نظنّ للوهلة الأولى أنّه بإمكاننا مبادلته العداوة ذاتها، لكنّنا نفشل في أوّل رجوع إليها حين الفقد، أو حين الشّوق إلى الذين نفتقدهم، وقد صاروا إليها.
ونعلم يقيناً أنّنا أبداً سنصير إلى ما صاروا إليه، وسيبكينا أولئك الذين من فرط المحبّة تفاعلت أجسادهم. فالجسد هو الطريقة التي يثبت بها المرء حبّه، إنْ بالمصافحة حين اللقاء الأول، أو بالأحضان حين الشوق، أو حين اللقاء، أو بالدموع حين الوداع الأخير.
لقد مرّت المراحل كلّها، صافحناك حين اللقاء، حين كلّ لقاء، وبكينا أيّها المعلّم كما لا يُفْعلُ عند كلّ فراق، يبكي الرجال أيضاً، وكنت تفعل إذ تخترق النغمة قلبك في عزّ ليلة مليئة بالأهازيج والزجل و"المالوف" والقصائد التي تفهم معناها جيّدا، ويا ليتهم يفعلون!
وأنا أدخل عليك خلوتك في غرفة باردة لا تليق بجسدك الضّخم الذي ينحصر داخلها، قدّرت أنّك سعيد إثر ابتسامة يتعذّر على من لا يعرفك تفسيرها والخوض في أمرها، ويبتسم الذين كانوا معك في المعارك التي خضتها معهم، ضدّ عدمٍ كبير يسبح فوق رؤوسنا كغيمة لا تزول.
كانت خلوتك باردة، وجبينك وأنا أقبّله باردٌ أيضاً. هربت دمعة ساخنة نزلت عليه، وأنا أزيلها، أردّ عليك الابتسامة، فكلانا يدرك جيّدا مكرها وخبثها الجميلين.
كلانا يدرك الخطّة التي رسمتها لهذا اليوم العسير، ورغم هذا أنت يا صديقي تبتسم، وباستخفاف كبير من الموت الذي قهرتَه أخيرا، لكنّنا لم نقهره بعد!.
في البداية كنت مصرّا أنّ لي شيطانا، "الشعراء لهم شياطينهم" كنت تقول، وأردّ أن ليس بالضرورة. لا أحد بإمكانه أن يزيل هذه القناعة عنك، أنت تؤكّد أنهم يخفون ذلك عن العامّة، ولو أنهم تحدثوا به لزال الشعر ولأصابتهم اللعنة والخرس في الوقت ذاته.
وها هو الخرس يصيبني، ولم أخبر أحداً أنّ لي شيطاناً، كما كنت تقول. الموت مارد يا صديقي، يصيبك باللغة أكثر من أي وقت مضى، لكنّها لغة خرساء، قاسية ومُهلكة، خرجت أم لم تخرج عن صاحبها.
الموت مارد، يصيبك باللغة أكثر من أي وقت مضى، لكنّها لغة خرساء، قاسية ومُهلكة، خرجت أم لم تخرج عن صاحبها
لازلتَ يا خالد عصيّاً على الفهم، كأنّك في كلّ مرّة يا صديقي نلتقي فيها، تحاول أن تلمّح وتتفادى التصريحات الطويلة المبتذلة في نظرك، لكنّك تكشف عنكَ أيها الرجل الحكيم وأنت تمسك عودك "العرْبي"، عود قسنطينة، عود المدينة التي ما إن تهاوى عليها خبر توقّف قلبك على إحدى شوارعها حتّى أصابها اليأس الأخير، فخرس العود للأبد والكمنجات أيضا.
لازلتَ غامضا يا خالد، تُروى عنكَ الحكايات، ويؤوّل كلامك ولغتك في المجالس ويتهافت القوم إلى إثبات أنّ ما فهموه عنك هو الصحيح، ويخالفهم في ذلك الرأي آخرون، ويبدو أنّ في الجدال الكبير هذا، تتواجد أنت سؤالاً عصيّاً على اللحظة، عصيّاً على ما بعدها، وعصيّاً عليّ وأنا أحاول أن أقول لك شيئاً، ليتني أستطيع..
تفتقدك المدينة في مساءاتها الصّاخبة بالتشققات، تشققات القلب والأمكنة التي كنت تغني فيها "المالوف"، قصيدة بكاء أبدية ترثي فيها الأندلس، تبكي فيها الراحلين "صطوفة، برّاشي ....". القائمة طويلة عندك، فأنت وفيّ للأحياء، وللذين غادروا. أنت أوفى أيّها الشّيخ الحكيم، وها قد التحقتَ بهم، وتركت الأماكن التي غنيت في لياليها تسأل عنك.
ألن يغنّي ذاك العصيّ على اللغة هذا المساء؟ ألن تغنّي اليوم أيها الجبل، أم أنّ قمّتك صارت أكثر علوّاً، ولا يمكننا بلوغها بعد الآن، وقد صرت إلى قبرك، هل ستغني بلغة أخرى، لن نفهمها نحن؟
لطالما عزّيت كلّ من حولك بتلك الضربات الخالدات التي تنهك بها العود وتنهك محبّي صوتك والمريدين من حولك الذين لم يستوعبوا إلى هذه اللحظة ماذا حصل.
هل مات الحناشي فعلاً؟ أم أنها كذبة صيفيّة ساخنة كاللحظة التي وقعت بها أرضاً، كذبة لم يحبّها أهل المدينة ولم يستسغها الزّجل ولا المحجوز ولا "المالوف"؟
لطالما اخترت الانزواء بعيداً عنهم، أنت تعرفهم يا صديقي، وأعرفهم، ولا داعي لنذكر أسماءهم هنا، لكنّها الأضواء أحيانا تعمي من يجلس قبالتها، وأنت تعرف هذا، ولذلك كنتَ بعد أن قرّرتَ، صديق الظلام الأبدي، تكفي شمعة أو شمعتان، وبعض الصادقين لتغنّي عن قسنطينة، في لياليها التي ستشتاق إليك كما لم تفعل من قبلك ولن تفعل بعدك.
شوبان، باخ، باكو دو لوسيا، أم كلثوم... كنت تنصت إلى كلّ هؤلاء حين يرتاح "المالوف" داخلك، وكنت تحترم الذين "لم يبدلوا تبديلا"، تذكر جيداً أولئك الذين ساروا على النهج يا صديقي، ولم يصلوا كما كنت أخبرك، فتقول لي إنّ الوصول الذي تقصده لازلتُ بعد لم أفهمه!
يا صديقي، أكتب إليك من قلب المدينة، بل قل تحتها، تعرف ما أقصده جيداً، من "سراديبها"، من خيبتها، لأخبرك أنّك سرت على النّهج، وإنّك قد وصلتَ وإنّي فهمت الوصول أخيراً أيها الرجل الحكيم.
أكتب إليك من ألق قسنطينة الذي ندّعيه ونحاول أن نتخيّله في المهرجانات والحفلات والأضواء والمناسبات، لكنّنا يا "الحناشي"، أنا وأنت نعلم جيداً ألّا ألق إلّا في اللحظات المسروقة التي نبكي فيها على الأندلس ونحن نغني "يا زمان الوصل بالأندلس" أو تلك التي نبكي المدينة فيها "يا حسراه على قسمطينة"، نبكي المدينة على هامش المدينة. فهل في هذه الليلة ألق ما، ونحن نبكيك؟ وبأي القصائد يا خالد حناشي سنفعل ذلك؟
(خالد حناشي أحد أعمدة "المالوف" والزجل في قسنطينة الجزائر، توفي بسبب أزمة قلبية يوم 21 يوليو/ تموز 2023).