في إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية
أحمد اللبابيدي
منذ احتلالها من قبل العصابات الصهيونية وإعلان قيام دولة إسرائيل على أنقاض القرى والمدى الفلسطينية التي هُجّر منها أصحابها تحت وطأة المجازر والترهيب عام 1948، لم تشهد القضية الفلسطينية حالة من الوهن والضعف على صعيد التضامن العربي والإسلامي كما هي عليه اليوم.
وحالة الوهن العربي هذه، التي يُمكن للبعض أن يبرّرها بانشغال الشعوب العربية بالمشاكل الداخلية والأزمات المتلاحقة التي تتعرّض لها، لا سيما الواقع الاقتصادي الصعب، إضافةً إلى حالة التشرذم والانقلابات العسكرية وغيرها من "المصائب" التي كُتِبَ للعربي أن يرزح تحتها منذ عقود، أدّت بما لا شكّ فيه إلى زيادة وتيرة المخططات الإسرائيلية الرامية إلى ابتلاع ما تبقى من فلسطين استغلالًا لهذه الحالة، وتحسبّاً لإفاقة المارد العربي يومًا ما كما حدث في أحداث الربيع العربي عام 2011.
الاستغلال الإسرائيلي لهذه الحالة من الضعف الشعبي العربي تلاقى للأسف مع مطامع عدد من الأنظمة العربية في الاستمرار في السيادة من ناحية، والحصول على الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري (تجاوزاً) من قبل الولايات المتحدة الأميركية، فكان عنوان المرحلة للأسف "الهرولة نحو التطبيع" مع دولة وكيان الاحتلال الإسرائيلي، ضمن ما بات يُعرف بالاتفاقات "الإبراهيمية"، بعيدًا عن القضية الفلسطينية، وإن شئت فقل مرورًا فوق ما تبقى من "رفاتها"!.
ويا ليت إسرائيل الكيان، صاحب المطامع اللامحدودة، والدولة الوحيدة التي لم ترسم حدودها أملًا منها بالسيطرة على ما بين النيل والفرات، توقفت عند التطبيع. بل إنّ ما تظهره الوقائع على الأرض يظهر أنّها ذاهبة إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير في سعيها المستمر لتصفية القضية الفلسطينية والقضاء على هذا "المصطلح"، الذي خفت صداه لدى شعوب المنطقة في ظلّ الواقع السياسي والاقتصادي المتردّي والقبضة الأمنية التي تبطش بكلّ من يخرج عن السطر.
ولعلّ ما نشهده من اعتداءات مبرمجة ومخطّط لها في مدينة القدس المحتلة والمسجد الأقصى دليل على حالة المسارعة الإسرائيلية لكسب حالة "الوهن" هذه، في إطار سعيها لبسط السيادة الدينية على المسجد الأقصى بذريعة الاحتفاء بالأعياد الدينية، التي باتت بوابةً لتنفيذ المخططات الصهيونية للتقسيم المكاني والزماني للمسجد الأقصى، وما يصاحب ذلك من انتهاك لحرمة الأقصى والاعتداء على المرابطين والمرابطات وإفراغه من المصلين والمصليات، وهو ما غابت مشاهده عن التفاعل العربي الرسمي، وحتى الشعب للأسف.
ليس من العقل أن نطالب نحن الفلسطينيين وقف التطبيع مع إسرائيل، فيما لا نزال متمسّكون باتفاقيات ومعاهدات لم تغن الشعب الفلسطيني عن جوع!
هذا الغياب، اللامبرّر من وجهة نظرنا، يتطلّب من الفلسطينيين أولًا اتخاذ خطوات عملية وحقيقية وجادة نحو إعادة الاعتبار لقضيتهم، تبدأ بإعادة ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي وتبنّي خطاب سياسي جامع، تصطف خلفه مكوّنات العمل السياسي الفلسطيني كافة، ومن ثمّ تبني استراتيجية وطنية، يُعاد من خلالها رسم العلاقة بين الفلسطينيين وإسرائيل من منطلق شعب احتُلت أرضه والكيان المحتل، وهو ما يتطلّب على الصعيد الرسمي، أو ما يعرف بالقيادة الفلسطينية، إعلان وقفها للاتفاقات المبرمة مع حكومات إسرائيل المتطرفة، ووقف أداء التزاماتها على غرار التنسيق الأمني وغيرها من التزامات لم تصب في صالح الشعب الفلسطيني وقضيته، بقدر ما كبّلته وأدخلته في زجاجة لم يعرف طريق الوصول إلى عنقها حتى اليوم.
هذه الخطوة الفلسطينية الجادة مقدّمة لرفع الغطاء عن أيّ اتفاقيات عربية وُقعت، أو ستُوقع، بين عدد من الأنظمة ودولة الاحتلال، فهذه التعرية واجبة كخطوة أولى لإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية عربيًا، فليس من العقل أن نطالب نحن الفلسطينيين بوقف التطبيع مع إسرائيل، ولا نزال متمسّكين باتفاقيات ومعاهدات لم تغن ولم تسمن الشعب الفلسطيني من جوع!
ويلي هذه الخطوات بناء جسم فلسطيني موّحد قادر على التواصل مع المكوّنات العربية، سواء كانت رسمية أو غير رسمية، تحت إطار القانون والنظام المعمول به في تلك الدول، كي يستطيع تجديد حالة الاهتمام العربي بالقضية الفلسطينية عبر ضخ دماء التفاعل مع ما يحدث في الأراضي الفلسطينية، أوّلًا بأول.
كما لا يمكن إغفال دور ساحة مهمة في إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، إذ بات تأثيرها كبيراً جدًا، وأضحت محرّكا أساسياً للشعوب والرأي العام، ونعني بذلك ساحة منصات وسائل التواصل الاجتماعي، التي للأسف شهدت اهتمامًا فلسطينيًا ضعيفًا نسبيًا بالمقارنة مع الجهود الإسرائيلية التي تُبذل في إطار السعي لتسويق الرواية الكاذبة للاحتلال، ما يتطلب جهدًا إضافيًا، لا شكّ في أنّه سيسهم في تحقيق الهدف المنشود، والذي يتمثّل في إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية.