فلسطين وكرة القدم
لا زلت أتذكر جيّداً ذلك اليوم عندما سألتنا أستاذة مناهج البحث في صفّ الماجستير، عن أفضل مكان أو فئة مجتمعية بإمكانها توفير تمثيلية حقيقية لمواقف أو أفكار شعب ما. كانت إجابتي حينها، وبشكل تلقائي، "كرة القدم". وعلى الرغم من قبولها الظاهري للإجابة ومرورها إلى إجابات غيري من الطلبة، إلا أنّي لازلت أتذكر نظرة الازدراء والامتعاض على وجهها. المشكل أنني لا زلت أؤمن، وبعد كلّ هذه السنوات، بل وزادت قناعتي بذلك، بأنّ جماهير كرة القدم، داخل الملعب وخارجه، تمثّل أساساً نظرياً مهماً لدراسة الجماهير، أو الشعوب، خصوصاً في وضعٍ كالذي نعيشه اليوم.
الأكاديميا وكرة القدم
يبدو الاسمان مثل متضادين معنويين وأبستيميين، هما خطان متوازيان لا يلتقيان، يمثل كلّ منهما فئة مجتمعية وثقافية وفكرية تعاكس الأخرى في الاتجاه، رغم تباين القوى والوزن. إنهّا نفس معضلة علماء الاجتماع المختلفين في مدى جدية الاعتماد على تحليل الثقافات الدنيا) نسبة إلى تقسيم الثقافة الدنيا والثقافة العليا) وهو جدال قديم قِدم خلاف الكاتب ماثيو أرنولد والمنظّر والكاتب رايموند ويليامز، والذي يستوجب تفسير طرح كلّ منهما مقالاً منفصلاً، إلا أنّنا سنستخلص فقط أنّ السجال قديم ولا زال يُلقي بظلاله على الأكاديميا إلى اليوم.
لماذا كرة القدم؟
أسباب الاعتماد على شريحة جماهير كرة القدم قد تبدو بديهية إلى أبعد الحدود، فهي الرياضة الشعبية الأولى في العالم، وتشمل قاعدة متتبعيها مُختلف الأصناف والفئات وحتى الطبقات، وهي تمثّل عملياً الفئة التي لا نراها على شاشات التلفاز، ولا نسمع رأيها في البرامج السياسية رغم أنّها تمثل السواد الأعظم للمجتمع، كما أنّ حركات الألتراس دائماً ما امتلكت الشجاعة لقول ما لم تستطعه الأحزاب السياسية المعارضة، ولنا في هذا الصدد مثالان بارزان بشّرا بالثورة بدايةً من الملاعب، في تونس سنة 2009، و مصر في 2010، و كلنا نعلم ما آلت إليه الأمور بعدها. فمن الحكمة استقراء الحركات الجماهيرية لتحليل واستشراف الأمور والأحداث قبل حدوثها، وهنا أفهم المحللين السياسيين وعلماء الاجتماع الذين توقعوا ثورةً وانفجاراً اجتماعياً في المغرب نظراً لثقل معاني أهازيج الجماهير الرياضية المغربية التي تتغنّى دائماً بالتوق إلى الحرية والعدالة الاجتماعية ومناهضة "الحقرة" المسلّطة على الشعب من قبل "السيستام".
كرة القدم هي قلب السياسة، والفيفا أكثر حزب سياسي امتداداً في العالم
إلا أنّ السلبية الوحيدة للاعتماد على حركات الجماهير الرياضية كقاعدة للدراسة، هي غياب تمثيلية جندرية حقيقية، خصوصاً في مجتمعاتنا العربية.
فلسطين في كرة قدم ما بعد 7 أكتوبر
ولنتمكن من فهم صورة فلسطين في الملاعب بعد السابع من أكتوبر علينا أن نعود بالزمن قليلاً إلى الوراء، وتحديداً ما قبل الحرب الروسية الأوكرانية. حينها كانت الفيفا تمنع كلّ أشكال الشعارات السياسية في الملاعب ما دامت لا تنتمي إلى الدول العظمى، معنى هذا أنّ البوسنة عوقبت وكوسوفو عوقبت لحمل جماهيرهما شعارات ذات صبغة سياسية رغم كونها رَمَزَت لقضايا عادلة، ولعل جماهير كرة القدم تتذكر حادثة لاعبَي سويسرا ذوي الأصول الألبانية، واللذَين عوقبا عقوبات قاسية لرفعهما شعار النسر ذي الرأسين (شعار ألبانيا) بيديهما، لكن في نفس الوقت تقيم فرنسا وبريطانيا يوماً تذكارياً لجنودهما الأبطال في الملاعب تحت تهليلات الفيفا، مع ارتداء أندية الدوري الإنكليزي لزهرة نوفمبر من أوّل يوم في نوفمبر/تشرين الثاني وحتى الحادي عشر من نفس الشهر تكريماً للجنود الإنكليز.
يبدو أنّ العرب لم يفهموا الرسالة إلا بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، فمنذ فبراير/شباط 2022 فُتحت الملاعب على مصراعيها للسياسة، فقبل كلّ مباراة كانت هناك دقيقة صمت إلزامية حداداً على الضحايا الأوكرانيين، يتصدّر فيها علم أوكرانيا الملعب وبجانبه كلمة "peace"، و يرتدي كلّ اللاعبين شارتين، الأولى صفراء وزرقاء بألوان العلم الأوكراني والثانية سوداء حزنًا وحدادًا، ومُنع المنتخب الروسي من المشاركة في كلّ التظاهرات الدولية ونُفي اللاعبون الروس إلى بلدهم تضييقاً وكرهاً وكأنّما حملوا السلاح. أصبح الأمر في هذه المرحلة مريباً للجماهير العربية، أفلا يُعدّ هذا الأمر تداخلاً بين الرياضة والسياسة وهو الأمر الذي رفضته الفيفا مراراً؟ أم أنّ الضمير الغربي استفاق فجأة الآن!
لم تدم الحيرة طويلاً، فمنذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزّة أُوصدت تلك الأبواب السحرية للملاعب التي كانت تطلّ بالأمس القريب على السياسة، وبقدرة قادر عادت تهديدات الفيفا لكلّ من يرفع علماً أو شعاراً سياسياً في الملاعب، ولاحقت الدعاوى والشكايات اللاعبين العرب المتضامنين مع غزّة، ولم تتوان فرنسا، وألمانيا خصوصاً، عن نقل هذه الحوادث من الملاعب إلى قاعات المحاكم، ونُكّل بالبقية أيما تنكيل، وكأنّ لسان حالهم يقول "يحسبون فلسطين أوكرانيا" أو "صدقوا أن حقوق الإنسان تشملهم!".
جماهير كرة القدم وجماعات الألتراس لا يمكن السيطرة عليها وإخضاعها
وهنا فقط، أدرك العرب، بل قل زاد تيقنهم، من ازدواجية المعايير والنفاق الغربيين، وأنّ الفيفا ما هي إلا مجرّد ذراع إمبريالي لقوى العالم المتحكّمة ببقية أوجه حياتنا، وأنّ كرة القدم هي قلب السياسة، وأنّ الفيفا هي أوسع حزب سياسي امتداداً في العالم.
لكن الجدير بالذكر، وهنا يكمن جمال الموضوع، أنّ التضييقات على الأندية واللاعبين لا يمكن أن تشمل الجماهير، فكما تحدثنا في أوّل هذا المقال، بأنّ جماهير كرة القدم وجماعات الألتراس لا يمكن السيطرة عليها وإخضاعها، وستقول كلمتها رغم أنف الجميع. وهي، بشجاعتها، وجرأتها المعتادة، ووعيها السياسي المُتصاعد مثلت النقطة المضيئة في كلّ العبث المستشري، فإلى جانب الجماهير العربية التي أبدعت في إيصال صوت فلسطين، شاركت بعض الجماهير الأوروبية في دعم القضية بصوتٍ حر ومرتفع، ولعل جماهير نادي سلتيك الأسكتلندي خير مثال على ذلك، فهم منذ بدء العدوان على غزّة لم يخيّبوا الظنّ يوماً.
منتخب فلسطين ورمزية كرة القدم
قد لا نبالغ عندما نقول إنّه يمكن استقراء الوضع العام وفهم الكثير من الأمور من مجرّد مباراة كرة قدم، كما حصل في المباراة بين منتخبي فلسطين وكوريا الجنوبية ضمن تصفيات كأس العالم 2026، فقد أصبح المنتخب الفلسطيني، ومنذ عملية طوفان الأقصى، يلعب بروح قتالية مثيرة للدهشة، وكأنّ الأمر لم يعد يخصّ كرة قدم فقط، وإنما شيئاً أعمق وأكبر من ذلك بكثير. هنا ثمّة صمود يحاكي صمود ذلك الشعب الأعزل، الذي يحاول بشتى السبل دعم قضيته لتحقيق النصر القادم مهما تأخر.