فلسطين... إثبات الوجود ونفيه
ربّما، ما يميّز الفلسطيني بما يكاد يكون الاستثناء الوحيد له، أنّه يولد من رحم أمه ليجد نفسه أمام قضية تخضعه ليثبت أحقيته بالبقاء عبر رحلة شاقة وطويلة، يرافقها الأسى والخضوع والحزن والعجز في محاولة منه لاستعادة كيانه البشري وهويته المجهولة المصير.
فالأحداث التي تعاقبت على أرض فلسطين منذ عشرينيات القرن الماضي، وصولاً إلى هزيمة حزيران، ومروراً بالنكبة الفلسطينية الكبرى التي أدّت إلى طرد الفلسطينيين إلى المنافي، وتجريدهم من هويتهم الوطنية، وعيشهم في مخيمات ذاقوا فيها أهوال الذل والمهانة، والفقر، والعوز، وكلهم توق إلى لحظة كرامة واحدة. ورغم تغيّر الظروف التاريخية، ما زال الفلسطيني بحاجة إلى يد تساعده وتردّ له الحق في استرجاع أرضه المسلوبة منه.
لقد كانت المأساة حليفة للفلسطيني في الماضي والحاضر، فلماذا ليس له حصّة في هذا العالم؟ وهل تكفي الصرخات التي نريد إيصالها إلى العالم أجمع لحلّ هذه المعضلة؟ وكيف لنا أن نجعل ما يخصّ شعباً بعينه، يخصّ البشرية جمعاء؟
على الرغم من كلّ الوثائق والدساتير والمواثيق والاتفاقيات التي أجمعت عليها الأمم جمعاء، إلا أنها تبدو عديمة الجدوى المنفعة، حيث ما زال الشعب الفلسطيني مقتلعاً من أرضه وبيته، تعصف به عواصف المنفى، وينوء تحت ظلّ خيمة اللجوء ضعيفة الأوتاد. ولا نجد حتى الآن سوى أداة تعبير، تندّد، تستهجن، ترفض، ولا تمدّ الشعب الفلسطيني بالفاعلية. إنها ليست سوى نواميس تذكره بماضيه، وبجحيمه، وليس بانتصاره الطاهر من الدنس.
وما زالت قضيته محكومة بفجائعيتها، لا يتيسّر النهوض بها إلى حلّ عقلاني، إذ ليس هناك من يُخضع التاريخ ويقتص منه بمحاكمة عادلة يسترد من خلالها الفلسطيني حقه في إنسانيته، وتحقيق شرط وجوده المتأصّل عميقاً في تربة الزمن.
تحوّل الشتات اليهودي المزعوم إلى شتات فلسطيني غير محتمل
عميق هذا الجرح الغائر الذي يغرق فيه الفلسطيني، بما يشكل وصمة عار على جبين العرب والعالم إلى يومنا الحالي، حيث فلسطين سليبة الإرادة، ضائعة الهوى والهوية، بدل أن تكون قضية العرب الأولى والمركزية، بل أضحت قضيتهم حلماً صعب المنال لدى أجيال متعدّدة من أبناء فلسطين أنفسهم.
والنتيجة أنّ الفلسطينيين، أصحاب الأرض يعيشون اليوم، وعلى أرض الواقع، في كارثة حقيقية ومستمرة، بحيث تحوّل الشتات اليهودي المزعوم إلى شتات فلسطيني غير محتمل.
ولمواجهة هذا، ما كان من الشعب الفلسطيني إلا اللجوء إلى فكرة أحقية المجتمعات بأنّ تُنتج معرفة عن ذاتها وتكتب ثقافتها وتاريخها بنفسها، من طريق الثورة والمقاومة والنضال، على اعتبار أنّ الفلسطيني ابن بيئة القضية الفلسطينية الذي عايش واقعها، وكان جزءاً فاعلاً من هذا الواقع، وشاهداً على أحداثه، بما في ذلك ما يقوم به الاحتلال من عمليات اغتيال للذاكرة وسلب حق العودة وانتقاص قصص الكفاح والثبات وطمس الهويات، وخطط التطبيع وانعكاساتها في الداخل والخارج على أنها صاحبة حق ووجود.
فهل هناك من يفتح نافذة العالم على القضية الفلسطينية، ويؤكد لكّل الأجيال القادمة مَنْ هم أصحاب الحق والقضية، كي تتوقف قوافل الشهداء المستمرة وتتحقّق أهداف شعب فلسطين في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف؟