فرصة سعيدة شبه ضائعة اسمها سعيد صالح (7)

12 أكتوبر 2021
+ الخط -

بالتأكيد، لو كانت تلك المحاكمة قد جرت في عصر البث المباشر للجلسات وزمن الهواتف المزودة بالكاميرات، لكانت الأعلى مشاهدة في تاريخ (اليوتيوب) وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي.

كان سعيد صالح عند حضوره إلى قاعة المحكمة ـ الممتلئة عن آخرها بعدد من زملائه الفنانين وبمئات من جمهوره من أبناء الإسكندرية ـ قد قضى حوالي ستة أيام في الحبس الاحتياطي، كأنه واحد من عتاة المجرمين الذين يُخشى من هروبهم من العدالة، وكانت تلك وقتها سابقة قضائية قبل أن تدور الأيام على القضاء ويصبح "شامخاً" أكثر من اللازم، ويصير حبس الكتاب والفنانين والناشطين السياسيين احتياطياً وبمدد مفتوحة، هو القاعدة وليس الاستثناء.

في بداية الجلسة، حاول محامو سعيد صالح الدفع ببطلان إجراءات الحبس وبعدم اختصاص محكمة الآداب في نظر الدعوى المتعلقة بالخروج على النص، وبعد رفض دفوعهم القانونية، طلب عادل إمام من هيئة المحكمة أن يتحدث، وعندما سمح له بدأ حديثه بالاعتذار للمحكمة لأنه ذهب إلى القاضي في منزله "بكل براءة أو بسذاجة الفنان الذي لا يعرف القانون" طبقاً لنص تعبيره، ثم دافع عادل إمام عن صديقه ورفيق عمره واصفاً محاكمته بأنها "محاكمة للفكر المصري"، وهي العبارة التي استفزت القاضي أكثر فلم يتح لعادل أن يتحدث أكثر من اللازم، لكن القاضي سمح للفنان يونس شلبي بأن يتحدث عندما ألح في طلب الكلمة، وربما كانت تلك مرة نادرة يتاح فيها لجمهور ـ حتى لو كان جمهور محكمة ـ أن يشاهد يونس شلبي وهو يتحدث بجدية بعيداً عن دور "منصور اللي ما بيجمّعش" الذي حبسه الجميع فيه، حيث قال يونس في كلمته التي ارتجلها بحرارة إن زميله وصديقه سعيد صالح "فنان مبدع يستلهم فنه من خلال حواره مع الجمهور ولا يجوز تقييد موهبته بل يجب أن يعيش الدور بكامل حريته ولا يحاسب على لفظ خارج على النص وإلا ما اعتبر هذا فنا"، لكن القاضي محمد بدر لم يتأثر بالمدافعين عن سعيد صالح سواءً كانوا من المحامين أو من الفنانين، ليقوم بتأجيل الجلسة للمرافعة، وحين عادت الجلسة للانعقاد أنهاها بحكم صادم جديد هو استمرار حبس سعيد صالح، لتواصل القضية جذبها للرأي العام الذي تابع القضية من خلال الصحف والمجلات فقط، فلم تكن مصر قد دخلت وقتها عصر التوك شو.

بعد تلك الجلسة، كتب مصطفى أمين في عموده اليومي بصحيفة (الأخبار)، وقد كان وقتها كاتب الرأي الأكثر انتشاراً وتأثيراً في مصر مقالاً قال فيه تعليقاً على حبس سعيد صالح: "إنني لا أوافق أن يخرج الممثل عن النص المسرحي وإن كان قد مضى علينا خمسون سنة نخرج على النص فلم يقبض على نجيب الريحاني أو على يوسف وهبة أو فاطمة رشدي أو روز اليوسف أو زينب صدقي....واحد من إثنين إما أن مقام الفنان هبط في بلدنا من عليائه وعدنا إلى الزمن الذي كانت المحكمة لا تقبل فيه شهادة الممثل أو القرداتي، أو أن مستوى الأدب ارتفع في بلادنا فاختفت الكلمات النابية التي نسمعها كل يوم في الإذاعات والتلفزيونات وأفلام السينما وفي الشوارع وعلى ألسنة القادة والحكام ونقرأها كل يوم في الصحف والمجلات. إن أحكام القضاة على رأسنا وفي عيوننا، لكنننا نتساءل مع كل الاحترام للقاضي لماذا يُقبض على نجم مشهور ويُزج به في السجن حتى ينتهي التحقيق في قضية اعتادت المحاكم أن تحكم فيها بالغرامة، هل كان القاضي يخشى أن يهرب الممثل الكوميدي سعيد صالح إلى خارج البلاد هربا من جنحة أو مخالفة، كان من الممكن أن يقرر القاضي كفالة ضخمة إلى أن تنظر القضية التي فيها شاهد واحد وقف أم المحكمة يتناقض في أقواله. ولكن يبدو أن رقابة المسرح اعتبرت سعيد صالح محرضا على ارتكاب الرذيلة ومسئولا عن انتشار الفحشاء والمنكر، فأرادت أن تجعل منه عبرة لكل من يحاول إضحاك الشعب المصري، فالذي يشاهد مسلسلات التلفزيون يتصور أن هناك سياسة مرسومة لنشر النكد بين الشعب المصري وإغراقه بالمآسي والفواجع والمصائب، وقد يجدون في برامج التلفزيون ما يذيعون فيه صفحة الوفيات حتى ينشروا الغم والهم واللطم والعويل بين أفراد الشعب المصري ولهذا ضبطت رقابة المسرح سعيد صالح وهو يرتكب جريمة الخيانة العظمى وهي جريمة إضحاك الشعب المصري المحكوم عليه بالأحزان المؤبدة. ويظهر أن رقابة المسرح في هذه الأيام تؤمن بالحكمة التي تقول الضحك من غير سبب قلة أدب، أو أنها ترى أن إضحاك الشعب المصري هو عمل فاضح في الطريق العام. إن العمل الفاضح في الطريق العام هو الذي فعلته رقابة المسرح".

أما رئيس تحرير (الأخبار) موسى صبري فقد ابتعد عن الكتابة السياسية بعد المحاكمة، ليكتب في الفن منتقداً الكتابات التي دافعت عن سعيد صالح دون أن يشير إلى اسم مصطفى أمين

لكن رأي مصطفى أمين المتعاطف مع سعيد صالح بقوة لم يكن الرأي الوحيد أو السائد، فقد كان هناك رأي آخر يهاجم سعيد صالح ويؤيد القاضي الذي حبسه كان من أبرز ممثليه الناقدة الفنية ورئيسة تحرير مجلة (الكواكب) حُسن شاه الهاكع التي كتبت في صحيفة الأخبار أيضاً تصف ما قاله يونس شلبي في المحكمة بأنه نسف لكل قواعد المسرح، قبل أن تصدر حكمها الخاص على سعيد صالح قائلة: "ليت ممثلينا من نجوم مدرسة المشاغبين كانوا يتفوهون بارتجالات لا تجرح الآذان، لكن بعضهم قد هبط بالمسرح إلى مستوى الكباريه، آسفة بل الغرزة، وتصور أن شهرته سمحت له بأن يستعرض أمام الجماهير بأبذأ الألفاظ والحركات، إننا نرحب بمحاكمة كل من لا يحترم نفسه وجمهوره على خشبة المسرح، لعلنا نعيد إلى المسرح المصري شيئا من القيم التي ضاعت على يد طبقة من الممثلين يتصورون أنفسهم فوق القانون".

أما رئيس تحرير (الأخبار) موسى صبري فقد ابتعد عن الكتابة السياسية بعد المحاكمة، ليكتب في الفن منتقداً الكتابات التي دافعت عن سعيد صالح دون أن يشير إلى اسم مصطفى أمين، معتبراً أنها "مجاملة لشهرة الفنانين، وإسقاط لقيمة أن المسرح مدرسة الشعب وأن إضحاك جماهيره لن يكون بالإسفاف أو بالكلمات التي تخدش الحياء"، ومؤكداً أن ما فعله سعيد صالح لا علاقة له بالحرية أو الديمقراطية التي "أصبحت بعض الأقلام تحملها فوق ما لا تحتمل وما لا تعرفه حرية أو ديمقراطية في العالم".

ولم تكتف صحيفة (الأخبار) بما كتبه مصطفى أمين وموسى صبري وحسن شاه بل أفردت صفحاتها لعدد كبير من المقالات والرسائل المؤيدة لحبس سعيد صالح والتي أقتطف منها عبارات ربما لا يصدق أحد أنها كتبت بحق سعيد صالح الذي فجع رحيله بعد ثلاثة عقود قلوب ملايين المصريين، خذ عندك هذه المقتطفات على سبيل المثال لا الحصر:

"إذا كانت هذه هي مدرسة الفكر المصري في رأي عادل إمام فإن أهل الفكر في مصر يجب أن يحطموا أقلامهم إذن ويتركوا الساحة الثقافية أي ساحة الحضارة والمدنية للبرابرة الهمج أعداء الحضارة الذين يتصورون أن سب الآباء والأمهات على خشبة المسرح قمة الفكر وإن محاكمة هؤلاء هي مخالفة للفكر المصري".

"نطالب وزير الإعلام صفوت الشريف بمنع ظهور سعيد صالح في أي عمل تليفزيوني أو إذاعي، فالممثل الذي لا يعرف الفرق بين المسرح وحوش بردق لا يستحق أن يسمع أو يُرى".

“لماذا لم يصدر القاضي حكما بحبس عادل إمام ويونس شلبي الذين ذهبا إلى بيت القاضي في محاولة لإقناعه بالإفراج عن زميلهما سعيد صالح، إن الرحمة لا تنفع مع هؤلاء ـ إن انتماء عادل إمام وسعيد صالح ويونس شلبي إلى أهل الفكر جاء نتيجة صمتهم وتكاسلهم عن النقد وعن التصدي لهذا التيار الهمجي الذي يهدد الثقافة الوطنية أعظم تهديد ويجعل مسرحيات مثل شمس النهار وأهل الكهف وشهر زاد تختفي تماما من على خشبة المسرح المصري لتظهر بدلا منها هذه البذاءات باسم الفكر واسم المسرح" .

“تحية للمستشار الذي أعطى درسا في الآداب للممثل سعيد صالح الذي خدش حياء المتفرجين بالكلمات الوقحة وبالحركات القذرة ـ قديما كان المسرح مدرسة فجاء سعيد صالح وأمثاله وحولوا المسرح إلى ماخور أشبه بمواخير كلوتّ بيه ـ لو كان الأمر بيدي لأصدرت أمرا بمنع سعيد صالح من العمل في المسرح عقاباً له ودرساً لمن يحاول تقليده".

...

نكمل غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.