فرصة سعيدة شبه ضائعة اسمها سعيد صالح (16)

25 أكتوبر 2021
+ الخط -

برغم حرصه على تأكيد التزامه الديني بعد خروجه من "الحبسة التانية"، لم يكن سعيد صالح يجد مشكلة في إعلان تمسكه بالانفتاح في الحديث مع الآخرين أو "الكلام بلساني الزِفِر" كما كان يصفه ساخراً ومتحدياً، وحين حضرت مناقشة له مع شخص محافظ حول هذه النقطة قطع سعيد صالح النقاش الذي طال وبوّخ بأنه يؤمن أن الله غفور رحيم ويعلم حسن نيته وسيسامحه لأنه على الأقل أصبح "أحسن من الأول"، وهنا أخذنا الحديث إلى ما كنت أسمعه من قبل عن "سعيد صالح بتاع زمان" ولسانه الفالت على حد تعبير محمود السعدني حين كتب عنه في آخر الستينيات، لأطلب منه أن يحدثني عن "أيام الصعلكة" التي عاشها في بداياته الفنية.

أكد لي سعيد صالح عدة حكايات عن جموحه، كنت قد سمعتها من صديقيه عادل إمام وصلاح السعدني، بل وأضاف فحكى عن واقعة جرت في الثمانينات بينه وبين فنانة من جيل تالٍ له كانت مشهورة بطلباتها لمن تعمل معهم ألا تعلو أصواتهم في الاستديو بالضحكات أو الصراخ، فضلاً عن الشتائم والألفاظ "النابية"، وحين سمعت سعيد صالح يتحدث مع زملاء له بطريقته العادية التي لا تفتعل الشتائم بل تعتبرها جزءاً من بنية الكلام، عبرت عن اعتراضها بصوت عالٍ وطلبت من الجميع أن يلتزموا بالبعد عن الشتائم، فما كان من سعيد إلا أن قام بدخول حجرته وخلع ملابسه ووضع فوطة على كتفه وقام بالتجول في الاستديو وهو يقول "بلاش شتيمة يا جماعة عشان كده عيب.. ما يصحش كده لازم يكون عندنا أخلاق"، لينقسم الموجودون في الاستديو بين صارخين مولولين سارعوا بمغادرته، وبين ضاحكين على الطريقة التي رد بها سعيد على محاولة تقويمه.

وبعد أن حكى سعيد الواقعة قال لي إنه أدرك فيما بعد خطئه واعتذر لزميلته على تصرفه الجامح وشكر لها أنها سامحته ولم تقم بتصعيد الأمر، وقال إنه لا يدري كيف تصرف بذلك الانفلات، لكنه وجد نفسه منساقاً للرد بذلك الشكل العدائي، رداً على محاولتها تهذيبه وممارسة سلطة عليه، وقال إنه بعد أن أنجب ابنته هند أصبح يفكر بشكل مختلف ولم يعد يعتبر التصرف بهذا الشكل شطارة، بل أصبح يعتبرها خيبة، وأنه يفرق بين نقد ذاته وتطوير نفسه، وبين رغبة الصحف ووسائل الإعلام في نصب محاكمات له يسعد الجميع برؤيته فيها وهو يعلن تبرؤه من نفسه على الملأ.

لم تكن مشاركة سعيد صالح في الفيلم والمسرحية ملفتة أو جاذبة لمشروعات أخرى، خصوصاً أن الكثيرون لاحظوا أنه فقد لمعانه الفني، وأن لسانه أصبح أثقل في الحديث

كان سعيد صالح يشير وقت حديثنا إلى عدة ممارسات إعلامية جرت في تلك الفترة التي أعقبت خروجه من السجن، من أبرزها برنامج تلفزيوني أذيع على القناة الأولى الأكثر مشاهدة في مصر وقتها قدمته المذيعة المستفزة فريال صالح، قامت فيه بـ "إعادة محاكمة سعيد صالح" طبقاً لتعبير الكاتب صلاح عيسى الذي استفزه الأمر وكتب عنه مقالاً في صحيفة الجمهورية نشر بتاريخ 30 أكتوبر 1997، أشار فيه إلى إصرار المذيعة على دفع سعيد صالح للتأكيد على أخطائه السابقة بالتردد على أماكن مشبوهة والاعتقاد أن المخدرات تثير الخيال، وتوجيه شكر إلى وزير الداخلية ولواءات الشرطة، واستنكر صلاح عيسى معاقبة سعيد صالح على نفس الجريمة مرتين، مطالباً بحقه في أن يحاكم أمام قاضيه الطبيعي "وليس أمام قضاة مزيفين لا يسعون للعدل بل يشبعون رغبتهم الكاملة في تعذيب الآخرين والتمثيل بهم"، ولم يكن ما كتبه صلاح عيسى هو القاعدة في تعليقات الكتاب على تلك الحلقة، بل كان الاستثناء وسط كتابات أشادت باستجواب سعيد صالح على الهواء لكي يكون عبرة وعظة للشباب الراغبين في تناول المخدرات، والذين افترض كتاب الرأي بوصفهم الحراس على ضمير الأمة أنهم سيكونون بالضرورة من محبي فريال صالح والقناة الأولى، وبالمناسبة كان سعيد صالح في ذلك الوقت يتحدث عن أهمية التواصل مع الشباب بشكل شخصي ودون وعظ ولا تعالٍ عليهم، وكان يروي ببهجة واقعة قيامه بالذهاب إلى الشباب الذين يلعبون الكرة قبيل الفجر في شوارع المهندسين القريبة من جامع الحامدية الشاذلية الذي كان يحب التردد عليه لصلاة الفجر، ويقوم بإقناعهم بترك اللعب وصلاة الفجر "حاضر"، لكي "يكسب فيهم ثواب" ويساعد في توثيق صلتهم بالدين.

لم يُكتب لعلاقتي بالفنان سعيد صالح أن تتوثق أو تستمر بعد تلك الجلسات التي أعقبت خروجه من السجن، فقد انقطعت بعد بدئها بأسابيع، وكان السبب كاشفاً عن التغير الذي أصاب سعيد صالح، فقد فوجئت حين ذهبت إلى جلسة جديدة معه في مطعم رضوان بالدقي الذي كنا نسهر على رصيفه حتى الفجر، أنه دخل في خناقة معي تعليقاً على ملف خاص كنت قد أشرفت عليه في صحيفة (الدستور) بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف، وكنت قد كتبت فيه موضوعين يناقشان الخرافات المرتبطة بقصة المولد النبوي، والتي لسنا بحاجة كمسلمين إلى تصديقها لأن معجزة النبي عليه الصلاة والسلام كانت القرآن الكريم وما فيه من آيات ومبادئ وأحكام، ولم تكن فيما يرتبط بشخصه، وقد استندت في الموضوعين على مصادر متعددة لأئمة ثقات ناقشوا هذه الفكرة بشكل مستفيض، وبالطبع كنت على استعداد لمناقشة سعيد صالح في اعتراضاته، لكنه اعتبر مجرد طرحي للموضوعين هرطقة وإساءة أدب مع النبي عليه الصلاة والسلام، وحين علا صوته ولفت انتباه الجالسين من حولنا، ذهبت إلى بائع الصحف القريب في الميدان لأشتري نسخة من (الدستور) وأطلب منه أن يشير لي إلى الفقرات التي توجد فيها إساءة أدب مع النبي، فقال لي إنه لا يشرفه أن يتناقش معي ولا أن يعرفني، ففقدت صبري واتهمته بالتخلف وضيق الأفق، وتركت المكان بعد أن فشل أصدقاءنا المشتركون في تهدئة الأجواء.

حين التقيت بسعيد صالح بعد هذه الواقعة بسنوات في مسرح مدينة نصر الذي كان يعرض عليه مسرحية (حلو وكداب) بالاشتراك مع أشرف عبد الباقي، ثم في موقع تصوير فيلم (بلية ودماغه العالية) الذي وافق على أن يلعب فيه دوراً صغيراً مع محمد هنيدي، تعامل معي بجفاء وتحفظ، وبدا أنه لا زال يتذكر خناقتنا السابقة، وفي المرتين سمعت بعض انطباعات المشاركين في المسرحية والفيلم عن سعيد صالح، فبدا لي أنه تعامل مع التجربتين بنوع من التسليم الكامل بلعب دور "السنّيد" وحرصه على عدم طرح أي اقتراحات أو إثارة أي خلافات مع صناع العملين الذين كان يتصور أنهما سيدشنان عودته إلى مشاركة أوسع في المسرح والسينما، وهو ما لم يحدث حين فشلت المسرحية وأغلقت أبوابها سريعاً، وكان فيلم (بلية ودماغه العالية) أول فيلم تتعثر إيراداته لهنيدي.

لم تكن مشاركة سعيد صالح في الفيلم والمسرحية ملفتة أو جاذبة لمشروعات أخرى، خصوصاً أن الكثيرون لاحظوا أنه فقد لمعانه الفني، وأن لسانه أصبح أثقل في الحديث، وكانت النتيجة مع الأسف أن ابتعد سعيد صالح عن المسرح طيلة سنوات النصف الأول من الألفية التي اكتفى فيها بالمشاركة في أدوار شرفية أو صغيرة في الأفلام والمسلسلات، كان يلمع فيها فقط حين تكون الكتابة جيدة ومحكمة، مثلما حدث في دوره الجميل في مسلسل (أوان الورد) مع وحيد حامد وسمير سيف، أو فيلم (جواز بقرار جمهوري) مع محسن الجلاد وخالد يوسف، كما بدا أيضاً من خلال مشاركاته الهامشية مع صديق عمره عادل إمام في نهاية فيلم (الواد محروس بتاع الوزير) أو أحد مشاهد فيلم (أمير الظلام) أنه غير حريص على ضمان "تمثيل مشرّف" تتم كتابته بشكل خاص يليق باسمه وتاريخه، مثلما حدث بعد ذلك بسنوات في فيلم (زهايمر) ليوسف معاطي وعمرو عرفة، والذي كان المشهد الذي ظهر فيه سعيد مع عادل أفضل مشاهد الفيلم وختاماً مشرفاً لمسيرة سينمائية جمعت الاثنين وكرستهما كأبرز صديقين على الشاشة في تاريخ السينما المصرية.

...

نكمل غداً بإذن الله

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.